توالت في الأيام الأخيرة فضائح برنامج التجسس الإلكتروني الإسرائيلي «ييغاسوس» حيث نشرت صحيفة «واشنطن بوست» خبرا عن أن مسؤولين في شركة «إن إس أو جروب» صاحبة البرنامج، عرضوا على شركة اتصالات أمريكية كبيرة «أكياسا من النقود» مقابل تسهيلات في دخول شبكات المحمول الدولية.
قبل ذلك بأيام نشرت تقارير إخبارية في صحف أمريكية وإسرائيلية عن صفقات مشبوهة لبيع «بيغاسوس» للسعودية والهند والمكسيك وبنما وجيبوتي، إضافة إلى المغرب وهنغاريا والإمارات ودول أخرى كثيرة. وفي كل هذه الحالات جرى استعمال تقنية التجسس الإسرائيلية لملاحقة المعارضين السياسيين والمدافعين عن حقوق الإنسان.
وفي إسرائيل نفسها، اضطرت الشرطة، هذا الأسبوع، إلى إصدار بيان تعترف فيه بأنّها استعملت برنامج التجسس بيغاسوس ضد مواطنين إسرائيليين، وأنّ بعض عمليات التنصّت والتعقّب شذّت عن القاعدة «القانونية». ورد هذا الاعتراف بعد أيام طويلة من إنكار ما جاء في تقرير واسع نشرته صحيفة «كالكاليست» جاء فيه أن جهاز الشرطة الإسرائيلي تجسس على هواتف رؤساء سلطات محلية، ومتظاهرين ضد نتنياهو، وناشطين في منظمات أهلية، وجمعت عنهم معلومات شخصية محرجة، وكان الرد الأول للشرطة، أن كل ما فعلته كان بموجب القانون، لكنّها تراجعت لاحقا، ربما خشية ما سينتج عن لجنة تحقيق عيّنها المستشار القضائي الإسرائيلي لفحص هذه الفضيحة.
حتى قبل 1948، درج جهاز المخابرات «شاي» التابع لعصابة الهاجاناة العسكرية، على التجسس على وجهاء ومخاتير القرى الفلسطينية، وجمع معلومات حسّاسة عنهم، استغلّت لابتزازهم وإجبارهم على القيام بأفعال لصالح «اليشوف» اليهودي وبالأخص مساعدة الحركة الصهيونية في شراء الأراضي. وقد تزايد النشاط المخابراتي الإسرائيلي بشكل كبير جدّا بعد حرب 1967، وكان ذلك لإحكام السيطرة على الواقعين تحت الاحتلال، ولمحاولة منع وقمع أي نشاط معاد للمحتلين.
أصبحت إسرائيل بطلة العالم في إساءة استخدام التكنولوجيا وتوظيفها في صناعة الحروب وفعل الرذيلة
التغيير الأكبر في عمل المخابرات الإسرائيلية، كان انتقال مركز الثقل من المخابرات «البشرية» من ضباط وجواسيس وعملاء، إلى استغلال آليات التكنولوجيا الحديثة وما توفّره من أدوات لم يتخيّلها عقل من قبل. أخذا بعين الاعتبار عمق البعد الأمني – المخابراتي في الكيان الإسرائيلي، الصعود السريع لصناعة السايبر فيه، فإنه ليس من المستغرب أن تكون إسرائيل هي السبّاقة في إنتاج «أفضل» وأخطر أدوات التجسس التكنولوجي وأكثرها تطوّرا. فقد نمت هذه الصناعة في أحضان المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، خاصة في شعبة المخابرات العسكرية وأذرعها المختلفة. وبما أن أهداف الدولة والمشروع السياسي الإسرائيلي، هي من النوع الذي من المستحيل تحقيقها، إلّا بالدوس على حقوق الإنسان، وباستعمال العنف الهجومي العدواني، فإن من الطبيعي أن تكون التكنولوجيا التي يجري تطويرها في هذا الإطار هي أيضا هجومية عدوانية لا قيمة عندها لخصوصية وحقوق الإنسان، خاصة إذا كان هذا الإنسان مناهضا لإسرائيل أو لأحد حلفائها وأصدقائها. أكبر كذبة يجري ترديدها هذه الأيام هي ادعاء إسرائيل بأنّها غير مسؤولة عن إساءة استعمال برنامج بيغاسوس. وهي كذبة لثلاثة أسباب: أوّلها إن وزارة الأمن الإسرائيلية تمنح ترخيصا وتصادق على كل صفقة تعقدها شركة «إن إس أو» ببيع برنامج بيغاسوس ومشتقاته، لأن ذلك يندرج في إطار تصدير الأسلحة، الواقع تحت سيطرة ورقابة الدولة. ثانيا، حتى بعد بيع البرنامج تبقى الشركة تدير التفعيل وتتحكم فيه وتراقبه، وتستطيع بسهولة منع أي «إساءة استخدام». وثالثا، لأن البرنامج نفسه هو سايبر هجومي أعد بالدرجة الأولى للاستخدام الإسرائيلي في قمع النضال ضد الاحتلال، وهو بهذا برنامج أداة من أدوات خرق حقوق الفلسطينيين، وتطوّر هذا الخرق ليصبح دوليا.
استفادت إسرائيل كثيرا من برنامج بيغاسوس وأمثاله، حيث أجرت عمليات مبادلة مع دول حصلت عليه مقابل تعزيز العلاقة بإسرائيل، ودعمها في المحافل الدولية. ومن هذه الدول المكسيك وبنما وهنغاريا. لكن الأهم بالنسبة لإسرائيل هو استغلال قوّتها التكنولوجية لتطوير علاقاتها العربية. وقد عرض نتنياهو، حين كان رئيسا للوزراء، خدمات بيغاسوس على الإمارات والسعودية والمغرب، في صفقة التطبيع مقابل التجسس. وشرح الجنرال المتقاعد عموس جلعاد الموقف الإسرائيلي قائلا: «مصلحة إسرائيل هي المحافظة على استقرار الأنظمة العربية القائمة، لأن علاقتنا بها هي كنز استراتيجي، وهي التي تمنح إسرائيل الهدوء على الحدود. علينا أن نفعل كل شيء للمحافظة على هذه العلاقات». وأضاف: «مجرد موافقتنا على استعمالهم للبرنامج (بيغاسوس) يمنحنا قوّة علينا استغلالها». في المقابل حذّر المؤرّخ الإسرائيلي المعروف يوفال نوح هراري من قدرة القوى المسيطرة على مراقبة كل الناس طيلة الوقت، واعتبره تطوّرا دراماتيكيا في حياة البشر، الذين يدخلون عصر فقدان الخصوصية، لكنّه حذّر من تنامي قوة التكنولوجيا الإسرائيلية قائلا، إن إسرائيل اليوم تشعر بنشوة القوّة، وهي ليست مستعدة للتوصل إلى حل وسط مع الفلسطينيين. وهذا تحليل صحيح لأن ازدياد قوة إسرائيل الاقتصادية والتكنولوجية والعسكرية يزيد من غرورها ومن ثقتها بقدرتها على السيطرة على الأمور.
المسخ ينقلب على صانعه
أثار استعمال التجسس الإلكتروني على المواطنين، ضجة كبيرة لدى الرأي العام الإسرائيلي، إذ ساد الاعتقاد أن برامج مثل «بيغاسوس» معدّة للخارج، وبالأخص في محاربة الفلسطينيين واللبنانيين والإيرانيين، وليس للداخل. كما بدأت شركات البرمجة الإسرائيلية تخشى من خسارة بسبب سمعة سيئة نتيجة فضائح بيغاسوس. وجاء في تقرير مطول نشرته صحيفة «هآرتس» هذا الأسبوع أن عددا من مديري الشركات الإسرائيلية قالوا، إنّه بدأت تصلهم استفسارات من زبائنهم في العالم حول علاقتهم بشركة «إن إس أو» وفي ما إذا كان لديهم عاملون اشتغلوا سابقا فيها. وصرح عدد من هؤلاء المديرين بأنهم لن يقبلوا في العمل من اشتغل في شركة التجسس، لأنهم لا يثقون بأخلاقياتهم المهنية.
لقد أدخلت الولايات المتحدة شركة «إن إس أو» إلى القائمة السوداء، وهي لم تفعل ذلك بسبب خرق حقوق الإنسان في جيبوتي مثلا، ويبدو أن لدى المخابرات الأمريكية معلومات سريّة عنها. التفسير الممكن لهدف هذه الخطوة هو أن الولايات المتحدة معنية بحل الشركة، وهناك ادعاء إسرائيلي بأنّها تسعى إلى التحكم بهذه التكنولوجيا الإسرائيلية المتطوّرة. في كل الأحوال لا تستطيع الشركة، ومن خلفها المؤسسة الإسرائيلية، تجاهل الضغط الأمريكي والضغط الدولي، وأخيرا الضغط الداخلي.
كما تعاني شركة «إن إس أو» من مشاكل داخلية عويصة، ونزاع حاد حول السيطرة على أسهمها، وقد يكون هذا سببا إضافيا لحلها، لكن نستطيع ان نجزم بأنه لو حصل ذلك فلن يؤدي ذلك الى تغيير، فالشركة نفسها ستعود بحلّة جديدة وربما بملّاك جدد. والأهم من ذلك أن هناك في إسرائيل مئات الشركات، التي تعمل في مجال السايبر، وهناك عدد لا يستهان به من برامج السايبر الهجومي المشابهة لبيغاسوس، وهي لا تحظى بالتغطية الإعلامية. وإذا كان لبيغاسوس، الحصان المجنّح في الميثولوجيا اليونانية، أخ وحيد هو كريساور، فإن لبيغاسوس الإسرائيلي أخوة كثيرين، بعضهم معروف باسمه وأغلبهم في العتمة الشديدة. لقد أصبحت إسرائيل بطلة العالم في إساءة استخدام التكنولوجيا وتوظيفها في صناعة الحروب وفعل الرذيلة. ولعل من أهم دروس قضية بيغاسوس، أن العالم بدأ يحس بأن الانفلات الإسرائيلي، المستهتر بحقوق الإنسان يصل لأماكن بعيدة جدّا، ولا يبقى في حدود فلسطين التاريخية. ويمكن القول بملء الفم إن إسرائيل تشكل خطرا ليس على الفلسطينيين وحدهم، بل على كل المدافعين عن حقوق الإنسان وعن العدالة. إسرائيل هي خطر بسبب الاحتلال ومشروعها الاقتلاعي الاستيطاني، وبسبب سلاحها النووي، والآن تزداد خطورة بسلاحها التكنولوجي الثقيل، الذي يمكن، بلا مبالغة، أن يستهدف أي إنسان حر في هذا العالم. وعليه فإذا كان لبيغاسوس الأسطوري أجنحة وهي خالدة، فإن مهمة قص أجنحة بيغاسوس الإسرائيلي هي مهمّة كل المدافعين عن العدالة في العالم، لكن هذا لا يكفي، فالبدائل موجودة، والمطلوب حقا هو قص أجنحة إسرائيل نفسها.