ليس جنود العدو الإسرائيلي الأبطال الوحيدين لمسلسل التنكيل بحقّ الفلسطينيين في الأراضي المحتلّة، بل تقف جنباً إلى جنبهم مجموعات استيطانية متطرّفة، تحظى بغطاء ورعاية وتمويل من «الدولة». مجموعاتٌ لعلّ أبرزها «شبيبة التلال»، التي أُوكلت إليها منذ سنوات مهمّتا التضييق على أهل الأرض الأصليين وسرقة ممتلكاتهم. لكن موجة الاشتباك الأخيرة في الضفة، أظهرت تشكُّل حالة من الردع النسبي بوجْه هؤلاء الذين كان أرييل شارون وصَفهم بـ«ملح الأرض»، بعدما ابتكر الفلسطينيون نسقاً جديداً من المقاومة الشعبية، جعل المحلّلين الإسرائيليين يحذّرون من أن النهج المتّبع حالياً للسيطرة عليهم، بات «غير مجدٍ» عملياً
دأبت دولة الاحتلال، منذ نشأتها، على إنتاج جماعات من «المرتزقة» تحظى بغطاء قانوني وسياسي، بهدف توكيلها بـ«المهامّ القذرة»، التي لا يمكن لـ«مؤسّسات الدولة» القيام بها، حرْصاً على صورتها أمام «المجتمع الدولي». ولعلّ واحدة من أبرز تلك الجماعات، هي «شبيبة التلال»، المدفوعة بارتباط إيديولوجي ـــ قومي، عنوانه «قيام مملكة داوود الكبرى» والاحتقار المطلق لـ«الأغيار» (غير اليهود)، بتحريضٍ وتعبئة من الحاخامات اليهود، وبتدريب من المنظّمات الاستيطانية المتطرّفة. وقد كان لهذه الجماعة دور كبير في الاعتداءات الأخيرة التي شهدتها قرى الضفة الغربية المحتلّة وبلداتها في الآونة الأخيرة، خصوصاً عقب عملية «حومش»، حيث قادت الناشطتان اليمينيّتان البارزتان، يهوديت كتسوفر ونادية مطر، ومعهما رئيس مجلس «مستوطنات الشمرون» يوسي دغان، هجمات المستوطنين على الفلسطينيين.
على أن الموجة الأخيرة من الهجمات لم تكن مناظِرةً لِما سبقها، خصوصاً لجهة الحشود الضخمة (أكثر من 10 آلاف مستوطن)، واستهداف قرىً بأكملها، وهو ما كشف عن تنظيم واستعداد مسبقَين. وقبل وقوع الاعتداءات، كانت تُنشر صور الشخصيات المُستهدَفة، ومنها - على سبيل المثال لا الحصْر - أمين سرّ حركة «فتح» في برقة، شادي أبو عمار، الذي شُنَّت ضدّه حملة تحريضية من قِبَل المستوطنين، عبر نشْر صورة له مع الأسير زكريا الزبيدي. وبعد ساعتَين من ذلك، تعرّض أبو عمار لهجوم من قِبَل 35 مستوطناً، تسبّب له بأكثر من 80 غرزة في جسده. وإلى أبعد من ذلك ذهب المستوطنون، بترصُّدهم حركة الأهالي، واستغلالهم «فزعتهم» لإنقاذ قرىً مجاوِرة، لينفّذوا اقتحامات جماعية بحماية قوات الاحتلال، ويعتدوا على المنازل وأهلها، كما حدث مع أهالي سبسطية، حين هبّوا للدفاع عن قرية برقة. والأمر نفسه تكرّر في قرية قريوت جنوب نابلس، حيث هاجم أكثر من 15 مستوطناً بالزيّ العسكري، منزل وائل مقبل، بالقضبان الحديدية، ما أدّى إلى إصابة صاحبه بأربعة كسور في أضلُعه، وجروح خطيرة، فيما تمّ تحطيم الأثاث بالكامل.
91% من ملفّات التحقيق التي فتحتها الشرطة الإسرائيلية في الضفّة ضدّ مستوطنين أُغلقت من دون تقديم لائحة اتّهام
الطلقة بالطلقة والدم بالدم
وليست «الفزعات» الأخيرة عارِضة أو استثنائية، بل هي مندرجة في سياق بدأ تشكّله منذ عام 2015، وتحديداً عقب حادثة إحراق عائلة الدوابشة على أيدي المستوطنين، حيث وجد الفلسطينيون لديهم حافزية كبيرة لتنظيم أنفسهم ضمن حشود ضخمة عند مداخل القرى، بهدف منْع عمليات الاقتحام قبل تنفيذها. وفي الآونة الأخيرة، اتّخذت هذه الحالة طابعاً مميّزاً، على خطوط التماس مع المستوطنين في برقة وسبسطية وبزاريا، توازياً مع تسجيل عمليات إطلاق نار مدروسة ودقيقة باتّجاه المستوطنات أو الحواجز العسكرية، كما في البؤرة الاستيطانية المُقامة على جبل صبيح، والتي انطلقت منها الرصاصات الأولى التي جرّت خلفها سلسلة من عمليات إطلاق النار، على مدى أسابيع لاحقة، على وقْع هتافات «الطلقة بالطلقة، والدم بالدم». وعلى إثر تلك التطوّرات، بدا أن ثمّة حالة ردع بدأت بالتشكّل بين الفلسطينيين والمستوطنين؛ إذ على الرغم من أن مسيرات الأخيرين في الضفّة لم تتوقّف بشكل كامل، إلّا أنها تراجعت من حيث الوتيرة واختلفت من حيث الشكل، بتقلّص عدد المشاركين في الواحدة منها إلى بضعة شبّان، جُلّهم ما دون الـ21 عاماً (شبيبة التلال)، واقتصار مساراتها على مداخل البلدات، من دون الدخول إليها. وفي قُبالة هذه المشهدية، كتب الخبير العسكري، يوسي يهوشع، في صحيفة «يديعوت أحرونوت» العبرية، أن «طريقة إحكام السيطرة على الفلسطينيين لم تعُد مجدية».
جدرانٌ ثلاثة
على الضفّة الإسرائيلية الداخلية، أثار وصْف نائب وزيرة الاقتصاد، يائير غولان، مستوطِني «حومش» بأنّهم «ليسوا من البشر»، عاصفة انتقادات ضدّه، لاستخدامه التعبير نفسه الذي أطلقه اليهود ضدّ النازيين قبيل الحرب العالمية الثانية، من أجل الطعْن في «الطلائعيين» من المستوطِنين، والذين تُمثّل «شبيبة التلال» تجمّعهم الأبرز. وتنقّلت سلسلة الإدانات ما بين رئيس حكومة الاحتلال، نفتالي بينيت، ووزير الخارجية يائير لابيد، ووزير الأمن بيني غانتس، وصولاً إلى رئيس الحكومة السابق، بنيامين نتنياهو، وهو ما دفع غولان إلى لَملَمة الموقف، وتقديم اعتذار رسمي. ولعلّ هذا الاستنفارَ مردّه «المكانة التاريخية» التي تَحظى بها تلك الجماعة، منذ أن أطلق عليها عرّابه الأوّل، رئيس الوزراء الأسبق، آرييل شارون، وصْف «مِلح الأرض»، في خطاب له في عام 1998، قال فيه إن «كلّ فرد يجب أن يتحرّك سريعاً للاستيلاء على أكبر قدْرٍ ممكن من التلال، من أجل توسيع المستوطنات (...) كلُّ ما نستولي عليه سيكون في أيدينا، وكلُّ ما لا ننتزعه سيكون لهم». ومن هنا، باتت لهؤلاء مهمّات أساسية على مسارَين، يغذّي أحدهما الآخر: الأوّل، تنفيذ عمليات «جباية الثمن»، عبر اعتداءات دورية على الفلسطينيين وممتلكاتهم ومساجدهم ومحاصيلهم؛ والثاني، سرقة الأراضي لإقامة البؤَر الاستيطانية. وعلى الرغم من أن آخر الإحصاءات تفيد بأن تعداد «شبيبة التلال» لا يتجاوز 800 عنصر، لا تتعدّى أعمارهم الـ25 عاماً، إلّا أن للجماعة تأثيراً بالغاً داخل الوسط اليميني المتطرّف برمّته. كما أن لها صلاحيات استثنائية محميّة بـ«جدران ثلاثة» - بحسب تعبير تسفي برئيل في صحيفة «هآرتس» العبرية - هي «الحاخامات، ومجلس يشع الاستيطاني، والحكومة الإسرائيلية».
وفي السياق نفسه، يوضح تحقيق صحافي نشرته صحيفة «يديعوت أحرونوت»، في السادس من كانون الثاني 2012، أن ممارسات جماعات «جباية الثمن» (شبيبة التلال لاحقاً) لم تنبثق من «مبادرات فردية» في أوساط المستوطنين، بحسب الرواية التي قدّمها كبار المسؤولين الإسرائيليين وتَبِعهم في تبنّيها الكثير من الصحافيين والمفكّرين الصهاينة، إنّما هي نتاج «فكرة منظّمة»، ابتكرتها «لجنة مستوطني شومرون»، برئاسة غرشون ميسيكا. وقد بدأ تبلورها فعلياً عام 2008، مع ضخّ ميسيكا أموالاً لمصلحة الجماعة من ميزانية «مجلس شومرون»، الذي تُموّله الحكومة من خزينة الدولة، فيما لا يزال التمويل جارياً إلى الآن. ولعلّ ذلك يفسّر ما كشفته منظّمة «يش دين» الإسرائيلية، من أن 91% من ملفّات التحقيق - وعددها 1200 - التي فتحتها الشرطة الإسرائيلية في الضفّة ضدّ مستوطنين بين عامَي 2005 و2019، على خلفية اعتداءاتهم على الفلسطينيين، أُغلقت من دون تقديم لائحة اتّهام، بحجّة أن المُتَّهم لم يُعرف، أو بذريعة فقدان الشرطة الإسرائيلية للملفّ، أو بدعوى «عدم وجود ذنبٍ جنائي»، علماً أن مؤسّسة «أوتشا» التابعة للأمم المتحدة وثّقت ما يقارب 3000 اعتداء، منذ بداية عام 2017 وحتى نهاية كانون الثاني 2021 فقط.