ما الدنيا إلاّ مسرح كبير، جملة تُنسب إلى الأديب الإنجليزي الكبير وليم شكسبير، وقالها المسرحي المصري الرائد يوسف وهبي، تعبيراً عن تلاشي الفواصل بين مسرح الدراما ومسرح الحياة، فما يحدث في الحياة يُنقل إلى المسرح، وما يُمثّلُ على المسرح يُنقل إلى الحياة، وهذا ما حدث في أوكرانيا، عندما تحوّل مسلسل (خادم الشعب) التلفزيوني من الدراما إلى الواقع، فالمسلسل يُصوّر من خلال الكوميديا شخصية مدرس تاريخ يحارب الفساد السياسي في أوكرانيا بعد استقلالها عن الاتحاد السوفيتي، واكتسب البطل شهرة شعبية أهّلته لترشيح نفسه لانتخابات الرئاسة الأوكرانية، ففاز فيها بأغلبية كبيرة ليصبح رئيساً لأوكرانيا، في نقلة نوعية مباشرة من مدرس للتاريخ إلى رئيس للدولة.
نقل بطل المسلسل الكوميدي فولوديمير زيلينسيكي الدراما الكوميدية إلى الواقع الحياتي؛ فأسس حزباً سياسياً بنفس اسم المسلسل (خادم الشعب)، ورشّح نفسه في انتخابات الرئاسة عام 2019م أثناء عرض الجزء الثالث من المسلسل بعد عرض جزئه الأول عام 2015م والثاني عام 2017م، وكان شعاره الانتخابي متطابقاً مع مضمون المسلسل وهو تطهير الحياة السياسية من الفساد، إضافة لإحلال السلام في شرق أوكرانيا، ففاز بنسبة (73%)، وعمره الزمني تجاوز الأربعين بقليل، ولكن سياسته الخارجية – بتحريض من بريطانيا وأمريكا- تجاوزت الحدود المُحتملة روسياً توجهاً نحو الغرب بكثير، فذهب بعيداً في الولاء والتبعية للغرب وفي العداء والاستفزاز لروسيا، طالباً الانضمام للاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي (الناتو).
تحريض الغرب وأوكرانيا برئاسة زيلينسكي لاستفزاز روسيا هو استئناف للحرب الباردة بعد النهضة الروسية في عهد فلاديمير بوتين، بهدف محاصرة روسيا، واستنزاف قدراتها، وإضعاف قوتها، في إطار القضاء على مراكز القوى الدولية والإقليمية الرافضة للدخول في بيت الطاعة الأمريكي، لترسيخ نظام القطب الغربي الواحد العالمي، وتثبيت استفراد الاستكبار الأمريكي بالهيمنة الاستعمارية على العالم تحت عنوان (العولمة) أو بالمعنى الصحيح (الأمركة). ولكن زيلينسكي لم يُقدّر الحدود التي يُمكن للغرب أن يقف عندها في تقديم الدعم لأوكرانيا، كمحصلة لعدم تقديره الحدود الفاصلة بين منصب الرئاسة في الخيال الدرامي والواقع السياسي.
وعندما وصل الاستفزاز الأوكراني إلى درجة اعتبرته روسيا تهديداً لأمنها القومي الوجودي، ذهبت إلى خيار القوة المسلحة بعد التهديد بها، فغزت أوكرانيا عسكرياً ليجد الرئيس الأوكراني نفسه وبلده وحيداً أمام الآلة العسكرية الروسية الضخمة، فقال: "لقد تُركنا وحدنا للدفاع عن بلدنا"، وكأنه يستحضر جملة "المتغطي بأمريكا عريان"، التي أدركتها بعد فوات الأوان أنظمة حاكمة سابقة ربطت مصيرها بأمريكا، فتخلّت عنهم عند الخطر والحاجة للدعم الغربي، وهذا السلوك الأمريكي والغربي قاعدة ثابتة بالتجارب التاريخية المتكررة في عشرات المرات، منها في الزمن البعيد إيران والزمن القريب أفغانستان، ولكن بما أنَّ لكل قاعدة استثناء فإنَّ (إسرائيل) هي الاستثناء في هذه القاعدة، فعندما تعرّضت لمأزق وجودي جعلها على وشك الانهيار في المرحلة الأولى من حرب اكتوبر عام 1973م، أنقذتها الولايات المتحدة الأمريكية بجسرٍ جوي سريع ومتواصل أغرقتها بالأسلحة التي غيرت مسار الحرب لصالحها على الجبهتين.
استثناء (إسرائيل) من قاعدة التخلّي الأمريكية الغربية، كما حدث في الجسر الجوي أثناء حرب أكتوبر سببه العلاقة المميزة بين الغرب على جانبي الأطلسي والكيان الصهيوني في بُعدها الديني والسياسي، ففي البُعد الديني وفقاً للعقيدة المسيحية البروتستانتية المهيمنة على السياسة الغربية لا سيما بريطانيا وأمريكا، كرعاة للمشروع الصهيوني ودولته (إسرائيل)، فقد دُمجت (التوراة) في الإيمان المسيحي، وأُدخلت الرواية اليهودية بأحقية اليهود في أرض فلسطين، كعمود فقري في عقيدة الخلاص المسيحية، فيجب عودة اليهود كجماعة إلى فلسطين (أرض الميعاد)، تمهيداً لمعركة (الألفية السعيدة). وتُرجمت هذه العقيدة إلى سياسة، توّلت بريطانيا مهمة عودة اليهود وتأسيس دولتهم، وتوّلت أمريكا مهمة ضمان وجودها واستقراراها وقوتها وتفوقها.
أما البُعد السياسي للعلاقة بين الغرب والكيان؛ فقد كانت الحاجة إلى الدولة الوظيفية في قلب الوطن العربي والإسلامي حاضرة منذ بداية المشروع الاستعماري الغربي زمن الحملة الفرنسية على مصر والشام، عندما وجه قائد الحملة نابليون بونابرت نداء لإقامة وطن قومي يهودي في فلسطين تحت الراية الفرنسية عام 1799م، وعندما أحيت بريطانيا الفكرة بإصدار وعد بلفور بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين عام 1917م" وعندما اعترفت الولايات المتحدة بدولة (إسرائيل) فور إعلان قيامها عام 1948م ... لتكون حلاً للمشكلة اليهودية في أوروبا وقاعدة متقدمة للمشروع الاستعماري الغربي ضد الأمة العربية والإسلامية، ودولة حاجزة بين جناحي الوطن العربي الشرقي والغربي، وكياناً مُعيقاً لمشاريع الوحدة والنهضة والاستقلال في المنطقة العربية والإسلامية. وهكذا أصبح اليهود كجماعة بالنسبة للغرب المسيحي جماعة استعمالية كجسرٍ للألفية المسيحية السعيدة، واليهود كدولة بالنسبة للغرب المستعمر دولة وظيفية كرأس حربة للمشروع الاستعماري الغربي.
انطلاقاً من القيمة الاستعمالية للجماعة اليهودية في فلسطين للغرب المسيحي، والقيمة الوظيفية للدولة اليهودية في قلب العالم العربي والإسلامي للغرب المستعمر، فإنَّه من الطبيعي أنْ يكون الدعم الغربي للكيان الصهيوني مميزاً عن أوكرانيا – رغم أهميتها – وكل دول العالم الأخرى، بسبب الخصوصية الدينية والوظيفية للكيان الصهيوني هذه الخصوصية ستتآكل مع الزمن بزيادة العبء الذي يشكله الكيان الصهيوني على الغرب أخلاقياً واقتصادياً وسياسياً. وهذا الدعم الغربي ليس مفتوحاً إلى ما لا نهاية، ونهايته محتومة بمنطق التاريخ. ومعطيات الواقع واستشراف المستقبل، فعندما يُخرب اليهود دولتهم بأيديهم ويتفكك المجتمع الإسرائيلي من الداخل، بفعل تراكم التناقضات الداخلية، وفقدان الروح الصهيونية، وتزايد الهجرة المعاكسة...، وعندما يُصيب الخراب دولة اليهود بأيدي المؤمنين المقاومين تحقيقاً لوعد الآخرة، فإنَّ الدعم الغربي لن يجدي (إسرائيل) نفعاً بعدما تكون قد وصلت إلى قرب نهايتها المحتومة بالزوال.