"اطلعي برا يا حجة بدنا نعمل عملية لأحمد وننقذ روحه من الموت"، قالها الطبيب وهو يمسح عرقه، وبين أصابعه مقص يقطر دمًا، لم تصدق والدة أحمد التي وصلت مرعوبة لرؤية نجلها ما يقوله الطبيب، فقلبها يشتعل، وصدرها يحترق، أخذت تصرخ في وجهوهم وعيونها تسكب دمًا كان جسدها يرتجف من حالة الرعب التي أصابتها "أنا إمو بدي أشوفه"، إصرار والدة أحمد وبكاؤها الشديد دفع الأطباء للابتعاد عن باب غرفة الانعاش وإفساح المجال لوالدته التي تعرضت لأول صدمة في ذاك اليوم.
أحمد على سرير الموت، أجهزة عدة موصولة في جسده، وأحد الأطباء يقف إلى جانبه الأيمن يُمسك بجهاز صاعقة الكهرباء في محاولة لإنعاش القلب، وضعت أم أحمد يدها على فمها من الصدمة، وبدأت القشعريرة تضرب جميع أنحاء جسدها، أخذت شهيقًا عميقًا، وفتحت عينيها لتتجمد أقدامها، وصرخت "يّما مالك" أخرجت زفيرًا حادًا من صدرها ساعدها للاقتراب من جسد أحمد بسرعة خاطفة، أخبرها الأطباء أن أحمد بخير، ويحتاج لعملية جراحية عاجلة؛ لكن قلب الأم لم يطمئن أبدًا.
ما أن تمالكت أم أشرف مساد نفسها من الصدمة الأولى؛ لتصاب بالفاجعة الكبرى، أرادت أن تلمس مكان الإصابة فوضعت يدها على بطن نجلها لتنزلق داخل أحشائه الممزقة من الرصاصة القاتلة حيث الدماء الساخنة الملتهب رفعت يدها التي تقطر دمًا، ووضعتها على وجه نجلها؛ لترى بعينيها الدامعتين الدماء تخرج منتفضة من أذنيه وأنفه وأسنانه؛ لتطلق صرخة من أعماق قلبها اهتز لها الرجال من حولها فبكوا بكاءً حارًا.
الليلة الأخيرة
أشرف وهو نجلها الأكبر أخرج بمساعدة الأطباء والدته من داخل غرفة الإنعاش في مستشفى ابن سينا في مدينة جنين شمال الضفة المحتلة، ليواصل الأطباء محاولة إنعاش قلب أحمد الذي أصيب بثلاث رصاصات قاتلة إحداها في الرأس، والثانية في الكتف، والثالثة في البطن ما يدُل أنه لم يستسلم من الرصاصة الأولى.
قضى أحمد ليلته الأخيرة مع والدته وشقيقه أشرف، تناولوا طعام الإفطار مساء يوم الثلاثاء الذي يوافق 25 رمضان 1443ه ولم تخلوا تلك المائدة من الضحكات والمرح الذي كان يتسم بها أحمد، فكان يغازل والدته التي كانت تشعر بالحنان والدفء والراحة عندما تنظر إلى عينيه اللتين ترسمان خارطة طريق الشهادة بصمت دون أن تعلم بها والدته.
بعد صلاتي العشاء والتراويح أخلد أحمد إلى النوم، وعاد أشرف إلى بيته في الطابق العلوي، وكانت والدتهما تكثف صلاة الاعتكاف والتراويح ليلاً والدعاء لهما بالخير والسعادة، وقبل فجر الـ 26 من رمضان تناول أحمد السحور مع والدته، وعاد للنوم؛ تستذكر والدته تلك اللحظات الجميلة حيث الهدوء والشعور بالطمأنينة والسعادة، قبل أن يقطع صوت أذان الفجر ذكرياتها عادت إلى غرفة أحمد لتوقظه لأداء الصلاة؛ لكن المفاجأة "أحمد لم يكن موجودًا".
تفقدت "أم أشرف" غرفة نجلها أحمد جيدًا لكنها لم تجده، حاولت الاتصال به على هاتفه المحمول ليرد التسجيل الصوتي "الهاتف الذي تحاول الاتصال به مغلق حاليًا"، أخبرت ابنها أشرف الذي تفاجأ هو الآخر؛ لحظات من التوتر والقلق أصابت العائلة؛ لتجول تساؤلات عدة في أذهانهم: أين ذهب أحمد؟ ليس بالعادة أن يخرج دون أن يخبر أحدا منا".
اعتقال أحمد
في تلك اللحظات المتوترة تعود والدة أشرف في شريط ذكرياتها إلى ما قبل السنة عندما اعتقلت قوات الاحتلال الإسرائيلي أحمد الذي لم يكل ولم يمل من رشق دوريات جيش الاحتلال بالحجارة وزجاج المولوتوف عندما كانت تُقدم على اقتحام مدينة جنين ومخيمها فتقول لـ "شمس نيوز" "اعتقِل أحمد مدة سنة إلا 8 أيام لتضيع عليه الدراسة في الثانوية العامة التوجيهي للمرة الثانية على التوالي".
اعتقل أحمد في سجن مجدو، ثم انتقل إلى سجن النقب قبل أن تُصدر محكمة "شليش" التابعة للاحتلال الإسرائيلي حكمًا بحبسه عام و8 أيام و4 آلاف شيكل غرامة مالية"، تقول والدته بصوت قوي يُدلل على صبر وإيمان هذه المرأة الصابرة المرابطة: "قررت المحكمة حبس أحمد لمدة عام و8 أيام مع دفع الغرامة المالية المقدرة بـ 8 آلاف شيكل؛ بسبب دفاعه عن مدينة ومخيم جنين وإلقاء الحجارة على دوريات الاحتلال التي تقتحم كل صباح ومساء".
ابنك اتصاوب يا حجة
قطع شريط الذكريات التي سردتها والدة أحمد، رنين الهاتف المحمول؛ فعادت إلى حالة التوتر والقلق بعد أن سمعت أحد أصدقاء نجلها يقول: "يا خالتي ادعي لأحمد اتصاوب بصورة خطيرة برصاص جيش الاحتلال"، ما هي إلا ثوانٍ معدودة وسمعت أقدام أشرف تهرول بشكل جنوني على سلم "الدرج" فانتفضت مهرولة إليه تُمسك باب سيارة عمه؛ لكن أشرف أسرع قبل وصول والدته التي لحقت به برفقة شقيقه إلى مستشفى ابن سينا، صوت سيارات الإسعافات والاشتباك بين المقاومين وقوات الاحتلال أشعل النار في قلب أم أشرف التي كانت متلهفة لرؤية نجلها أحمد.
"وين ابني بدي أشوفوا" ما أن أطلقت أم أشرف صرخاتها لمن حولها من الناس حتى فُتح المجال أمامها؛ فوصلت لغرفة الإنعاش بخطوات متثاقلة، وقلب ملهوف لرؤية قمر من أقمار فلسطين، أخبرها الأطباء أن حالته حرجة، وبحاجة لعملية جراحية عاجلة، ودعوها للخروج فورًا من الغرفة، ولأن قلب الأم دليلها كما يقولون؛ فلم تطمأن لهم، وبدأت تتحسس نجلها.
انزلقت يدها في أحشاء أحمد، وارتفع معها حرارة يدها؛ نتيجة غليان الدماء التي كانت كثوران البركان في جسد أحمد، تتقاذف الدماء على الأرض وعلى ملابس الأطباء، فعرفت أن نجلها في نهاية لحظات حياته، مع ذلك المشهد المرعب الذي يقطر دمًا، أجبرت والدة أشرف على مغادرة غرفة الإنعاش، وبعد دقائق دخلت عليه لترى الصدمة الثالثة، أحمد لم يعد يتنفس فقد أدخله الأطباء في الكفن، وأحدهم يربط يدي أحمد وقدميه بشاشة بيضاء لتتأكد أن روحه الطاهرة صعدت إلى بارئها.
لم يسقط من الرصاصة الأولى
ودعت أم أشرف نجلها أحمد بالدموع المنسكبة على وجنتيها كالسيل الجارف، وعادت مع النسوة إلى المنزل؛ لتقيم عرس الشهادة بعد رحلة من البطولة والتضحية التي قدمها أحمد، وأصبحت سيرته العطرة على كل لسان حتى أن امرأة روت لأم أشرف بطولة نجلها أثناء تصديه لدوريات الاحتلال الإسرائيلي في مدينة ومخيم جنين.
استمعت أم أشرف لإحدى السيدات اللاتي شهدن بأم أعينهن استهداف جنود الاحتلال لأحمد، حيث روت تلك الحادثة بفخر وعزة وكرامة لما فعله أحمد بجنود الاحتلال الذين أصابهم الجنون حينما وصلت إليهم حجارة أحمد وزجاجات المولوتوف.
قالت تلك السيدة لأم أشرف: "ألقى أحمد الحجارة وزجاجات المولوتوف على دورية لجيش الاحتلال التي كانت تحاصر مدينة جنين، فأصابته رصاصة في كتفه مباشرة؛ لكن أحمد لم يسقط، فانتقل إلى زاوية أخرى فرشق الدورية الثانية بالحجارة قبل أن تصيبه رصاصة ثانية في البطن، لكن أحمد ظل متماسكًا قويًا لم يسقط، وواصل جهاده ومقاومته للاحتلال، فرشق الدورية الثالثة بالحجارة وهذه المرة أصابه قناص حاقدٌ متمرسٌ في الإرهاب برصاصة في الرأس مباشرة؛ لينتقل أحمد إلى العلى شهيدًا بإذن الله.
ومع ذلك المشهد المرعب وحديث النسوة عن بطولات أحمد تفاجأ والدة أشرف الجميع: "أحمد لا زال على قيد الحياة! ونحن بحلم وليس بعلم" تروي والدة الشهيد أحمد مساد قصة مؤلمة فبعد أيام قليلة من دفن نجلها كانت تذهب وتضع يدها في الرمال تقول بحزن وألم شديدين: "معقول أحمد تحت الرمل؟!"