يوماً بعد آخر يثبت الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج، على أرضه المغتصبة وفي وطنه المحتل، تميزه الكبير، إذ تتعاظم مقاومته وتتعدد أشكالها، وتتنوع أسلحته ويتضاعف أثرها، وتتدافع صواريخه ويزداد مداها، وتمتاز وسائله وتختلف أدواتها، ويبدع رجاله وتتنافس مُسَيَّراتُه، ويتحدى أبناؤه الصعاب ويواجهون المخاطر، ويتجاوزون العقبات ويصمدون أمام التحديات، ويستطيعون الوصول إلى أبعد مدى وأخطر موقع، ويخترقون الجدران المحصنة، ويتغلبون على المعابر والحواجز الأمنية، ويفلتون من أجهزة الرقابة والكاميرات، ووسائل الملاحقة الجوية والفضائية، والأرضية والبشرية، وتقنيات التعقب والتتبع الحديثة والمتطورة.
ويزداد الفلسطينيون مع الأيام يقيناً بالنصر، ويتعمق إيمانهم بحتمية العودة والتحرير، ويعدون العدة للغدِ الآتي والمستقبل الموعود، ولا يفت في عضدهم أو يوهن عزمهم عِظَمُ الضحايا وفداحةُ الثمن، فلا الشهادة تخيفهم، ولا الاعتقال يمنعهم، ولا هدم البيوت يردعهم، ولا الممارسات القمعية ترعبهم، ولا شئ مما يتمخض عنه عقل الاحتلال وخياله العنصري المريض يقعدهم أو ييأسهم، وقد جرب معهم وضدهم كل غريبٍ وظالمٍ، وكل عنيفٍ وقاسٍ، فما استكانوا له ولا سلموا باستعلائه وقوته، ولا خضعوا لجبروته وسلطته، بل بزوه ونافسوه، وتحدوه وواجهوه، ونالوا منه وأوجعوه، وأصابوه وفجعوه.
منذ ما قبل الصيف الماضي الذي شهد فيه شهرُ رمضانَ معركةَ سيفِ القدس، والفلسطينيون لا ينفكون يواجهون العدو في كل مكانٍ، ويلاحقونه في كل المدن والبلدات، والمستوطنات والتجمعات، ويهاجمونه في المحلات والحافلات، وفي الشوارع والطرقات، ويواجهونه بشجاعةٍ ورباطة جأشٍ، بكل ما يملكون من أسلحةٍ بسيطةٍ وأدواتٍ بدائية، فصدموه بسياراتهم، وطعنوه بسكاكينهم، وفجوا رأسه ببلطاتهم وأسياخهم الحديدية، وأطلقوا عليه النار من بنادق قديمة ومسدساتٍ صغيرة، وغنموا منه بنادق آلية ومسدساتٍ حديثة، وبقي في جعبتهم الكثير مما يرعب العدو ويخيفه، وبما يصدمه ويشل قدرته على الفعل والحركة، ويعطل قدرته على التفكير والمواجهة، وقد خال جهلاً أن الفلسطينيين وحدهم، ولا أحد معهم يساندهم أو يؤيدهم، وأنهم وصلوا إلى مرحلةٍ متقدمةٍ من اليأس والقنوط، بعد سقطات التطبيع وعار المصافحة والاعتراف.
غدت المقاومة الفلسطينية ثقافة شعبيةً، وسلوكاً يومياً اعتيادياً، يلجأ إليها كل شابٍ ثائرٍ، ويقوم بها كل رجلٍ غيور، وتنبري إليها الحرائر الماجدات والنساء الغاضبات، ولا يتأخر عن القيام بها الصغار والكبار، والفقراء والأغنياء، وأبناء المخيمات وسكان المدن، فقد ألجأ العدو بممارساته القمعية وسياساته الفاشية الشعب الفلسطيني كله إلى التفكير في المقاومة، وخوض غمار المواجهة لصد العدوان، وكف المستوطنين، ومنع عمليات التغول والعدوان والاقتحام والتدنيس، ووقف مساعي التقسيم والتخصيص، وتكبيد العدو ضريبة الاحتلال وكلفة الاستيطان، وأثمان البغي والقتل والاعتقال.
أما العدو فقد انهارت حصونه، وتفككت صفوفه، ووهنت عزيمته، وضعفت قوته، وتصدعت جبهته، وتراجعت قدرته، وتآكل ردعه، واهتزت صورة جيشه، وارتعشت حكومته، وأخفقت أجهزته الأمنية، وفشلت استطلاعاته وغارت تنبؤاته، ولم يعد قادراً على تدارك الأحداث ومواجهة المفاجئات، وبات أقرب إلى الاستجداء والسؤال، ومطالبة الأصدقاء بمساعدته والجيران بالوساطة بينه وبين المقاومة، لتكف عن عملياتها، وتتوقف عن تنفيذ مخططاتها، وقد أوجعه حتى اليوم تسعة عشر قتيلاً وعشرات الجرحى، الذين لن يسلم من ينجو منهم من معاناةٍ دائمة وأمراضٍ مزمنةٍ مستعصيةٍ، نفسيةٍ معقدة وجسديةٍ مقعدة.
لم تعد بين يدي العدو خياراتٌ جديدةٌ، ولا سبل فعالة أمامه لمواجهة الفلسطينيين والحد من إرادتهم، فقد خرج الفلسطينيون خروجهم الأخير، وأعدوا لمعركتهم الخاتمة، ولبسوا لَأْمَةِ الحرب وعدة القتال، واستودعوا الله عز وجل أماناتهم، بيوتهم وعائلاتهم، وأسرهم وأطفالهم، وباتوا لا يرومون غير النصر الناجز والعودة الآمنة المطمئنة، ولا يلتفتون إلى الوعود الكاذبة والمفاوضات الزائفة، ولا يؤمنون بغير القوة طريقاً وذرى سنام العزة والكرامة سبيلاً، ولا يتطلعون لغير هزيمة العدو ودحر الاحتلال بديلاً.
لعل الاحتلال بات يعرف يقيناً أكثر من غيره، أن يواجه شعباً مؤمناً عنيداً، صلباً صادماً، لا تكسر له قناة، ولا تلين له عريكة، ولا يعقد له لسان أو يغلق عليه سجان، ولا يوجد في قاموسه مفردات التسليم واليأس والخضوع والخنوع، والنسيان والقبول، وقد بات في الوطن وفي الشتات ثورةً تشتد وجمرةً تتقد، وسيلاً من العمليات البطولية لا تُحد، في الوقت الذي يدرك فيه أن مستوطنيه قد فقدوا يقين البقاء، وسلامة العيش وأمن الحياة، وشهوة السلطة وعظمة الاستعلاء، وأنهم أمسوا أقرب إلى الهروب أو الرحيل، إيذاناً بالوعد الآخر الذي يؤمن به الفلسطينيون ويعملون له، ويعتقد به اليهود ويخافون منه.