وَيكأنَّ الله عز وجل قدر شهادة الإعلامية القديرة شيرين أبو عاقلة، المرأة الصحافية المقدسية الأمريكية الفلسطينية، على مداخل مخيم جنين، بهذه الطريقة المدوية والصورة الصارخة، وفرضها على العالم كله، فكانت ملء سمع الكون وبصره، لشيءٍ عظيمٍ أراده، ولغايةٍ في نفسه سبحانه وتعالى شاءها، فهيأ لها الأسباب وقدر لها الظروف، ولو أنها كانت فقداً أليماً وحزناً كبيراً، إلا أننا نرجو الله عز وجل خيرها، ونعوذ به سبحانه وتعالى من شرها، فهو جَلَّ شأنه الذي يسير الكون بحكمته، ويقدر آجال الخلق بإرادته، فله في كل شيءٍ حكمة قد لا ندركها ولا نحيط بها في زمانها وحينها، ولكنها قد تتجلى من حيث لا ندري أو نحتسب، فنجني من الحزن فرحاً، ومن الألم عزماً، ومن الضعف قوةً.
بكينا بدموعٍ حرى غياب شيرين، ورثيناها بكل جميلٍ يليق بها، وتابعنا بحزنٍ حتى ساعة كتابة هذه الكلمات طقوس وداعها والصلاة عليها، ومراسم تشييعها ودفنها، وفعاليات تكريمها والعزاء بها، فلمسنا مما رأينا وشاهدنا طهرها وصدقها، وخيرها وبركتها، فكأنها بوابةٌ للمقاومة فتحت، وجبهةٌ فلسطينية تقدمت، ومنبراً وطنياً بالحق الفلسطيني صدح، فقد هزمت العدو في تابوتها، وقهرته في مماتها، وفضحته في شهادتها، وما زالت حتى الساعة تحرج سلطات الاحتلال وتفضحهم، وتكشف حقيقتهم وتظهر مخازيهم، وتميط اللثام عن لؤمهم وخبثهم ونذالتهم وفساد أخلاقهم.
استدعت سلطات الاحتلال في القدس شقيقها الفخور بها أنطوان، وطلبوا منه التعهد بأن تقتصر مراسم التشييع والدفن على خمسين فرداً من أسرة شيرين وعائلتها، فكان رد أنطوان الذي رفض التعهد وأصر على أن شيرين ابنة الشعب الفلسطيني كله، وأنه لا يملك الحق في منعهم من وداعها والمشاركة في تشييعها، أن خرج في وداعها عشرات آلاف الفلسطينيين، جاؤوا إليها من كل أرجاء فلسطين، مسلمين ومسيحيين جنباً إلى جنبٍ في جنازةٍ عز نظيرها في الشارع الفلسطيني.
أصرت الشرطة الإسرائيلية ألا يرفع المشيعون علم فلسطين، وطلبت من منظمي التشييع أن يلتزموا بالقرار، فإذا بسماء القدس تحجبها رغم أنف العدو وسلطته آلاف الأعلام الفلسطينية، في مشهدٍ سيبقى عالقاً في وعي سلطات الاحتلال التي تدعي أن القدس الموحدة عاصمتها، وأنه لا علم يرفرف فيها غير علم كيانهم، فإذا بالعلم الفلسطيني يبزهم ويزاحمهم، ويهدد وجودهم وينذر بزوالهم، وكأن الفلسطينيين يقولون لهم بتحدي أن هذه هي عاصمتنا، وهذه البلاد لنا، وهذا علمنا سيبقى أبداً وسيرتفع دوماً.
كما طلبت شرطة الاحتلال أن تكون مسيرة التشييع صامتةً هادئةً، لا تتخللها شعاراتٌ ولا خطاباتٌ، ولا يكون فيها تحريضٌ ولا إشادة بالمقاومة، ولا وعودٌ بالثأر أو دعوات للانتقام، فإذا بالمسيرة تتحول إلى شلالٍ من البشر هادراً، تزداد أعدادهم كل خطوةٍ ولا تنقص، فلا ينفضون نتيجة الاعتداء، ولا ينسحبون خشية الضرب أو الاعتقال، وهم يصدحون بشعارات يتردد صداها في جنبات القدس، وترتفع أصواتهم إلى عنان السماء، وقد اختلطت معها تكبيرات المساجد وصوت أجراس الكنائس، في مشهدٍ بهيجٍ يفرح به الفلسطينيون ويتيهون.
لن يغفر العالم لعناصر شرطة الاحتلال الإسرائيلي سلوكهم الشائن وتصرفهم البغيض، وهم يزاحمون المشيعيين، وينهالون ضرباً على الذين يحملون التابوت، يريدون إسقاطه بالقوة، إلا أن الشبان الذين تكبدوا الصعاب وتحملوا المشاق وهم في طريقهم إلى القدس للمشاركة في التشييع، رفضوا التخلي عن التابوت، وقاموا سقوطه، وأصروا أن يبقى مرفوعاً فوق الأكتاف، عالياً فلا يسقط، صامداً فلا يتزعزع، رغم الهروات الثقيلة التي كانت تنهال عليهم بوحشية من جنودٍ همجٍ لا يعرفون شيئاً من معاني الحضارة ومفاهيم الإنسانية.
لم تكتف سلطات الاحتلال باعتداءات جنودها وشرطتها على التابوت والمشيعين، وعلى حملة الأعلام والمتضامنين، بل داهمت جموعٌ غوغاء من جنودهم بيت الشهيدة شيرين واقتحموه، وفتشوه حقداً وعاثوا فيه فساداً، وصادروا بعض ما فيه غِلاً، ونزعوا من على جدران بيتها صورها وشهاداتها غيظاً، وأخذوا ما وجدوه في بيتها من أعلام فلسطينية وكوفيات وطنية حقداً.
لم يحترم الاحتلال الإسرائيلي كرامة الموتى ولا حرمة المقابر، ولم يحافظ على قدسية الكنائس ودور العبادة، ولم يقدر حزن المحبين وجوى المعزين، بل اعتدى على بيت العزاء، وحاول فض المعزين وإخراجهم بالقوة، واعتقل بعضهم واعتدى بالضرب على كثيرٍ منهم، إلا أن الفلسطينيين الذي رأوا في البقاء صموداً، وفي الثبات كيداً للعدو وغيظاً، أصروا على أن يواصلوا العزاء، وأن يتحملوا ما يتعرضون له من ضربٍ وأذى، إكراماً للشهيدة وسلوى لأهلها.
ستبقي شهادة شيرين أبو عاقلة ذكرى عالقة في وجدان الشعب الفلسطيني، ولن تقوى الأيام على طمسها، ولن يستطيع العدو الإسرائيلي أن ينساها، ولن تنتهي مفاعيلها، فقد حركت العالم كله ضده، وأجبرت حكوماته على إصدار بيانات استنكار وشجبٍ على غير عادتها، ما سيجعل جريمة اغتيالها لعنةً تطارده، وحسرةً وندامةً لا تفارقه، فسلامُ الله عليك شيرين، وسلام الله على من أحبك وودعك ودعا لك وصلى عليك.