كتب:
أ. محمد السيقلي
أ. محمد صيدم
إنَّ الحِفاظَ على الهُوِيَّةِ الفِلسطينيَّةِ مَطلَبٌ أسَاسِيٌّ مُلِحٌّ في حَياةِ الفَردِ والمُجتَمَعِ الفَلسطينِيّ، لِمَا لَهُ مِن قِيمةٍ وُجُوديَّةٍ تاريخيَّةٍ وَوِجْدانيَّةٍ ونِضَاليَّةٍ تُسانِدُهُ في التَّصدِّي للعُدوانِ الصَهيونيِّ الذي يَعمَدُ إلى طَمْسِ الوُجُودِ الفَلسطِينيّ، ولَا شَكَّ أنَّ الهُوِيَّةَ تَعنِي الوُجُودَ في المَقامِ الأوَّلِ، فَهِيَ الحَامِي لِلكِيَانِ الفَلسطينِيِّ في جَميعِ الأُطُرِ السِّياسيَّةِ والاجْتماعيَّةِ والثقافيَّة.
لَا عجبَ أنَّنَا في فَلسطِين نَنفَرِدُ بمَفهُومِ الثَّقافَةِ عن مَثيلاتِهَا في أيِّ مَنطِقةٍ مِن مَناطِقِ العَالَمِ بِخصائِصَ فَرضَتْهَا حَقائقُ استِثنائيَّةٌ تَتمثَّلُ في وُقوعِنَا تَحتَ احْتِلالٍ اسْتيطانِيٍّ وعَسكَريّ، وفِي فَلسطِين أيضاً شَرَعْنَا في مُواجَهَةِ المَشروعِ الصَهيونِيِّ عَبْرَ التَّأكِيدِ على هُوِيَّتِنا الثقافيَّة.. هذِهِ الهُوِيَّةُ تَشمَلُ عَناصِرَ مُختلِفَةً، وتَجمَعُ بَينَ أنماطِ حَياةٍ مُمَيَّزَةٍ وبَينَ الفُنونِ والثَّقافَةِ التي نَتميَّزُ بِها، كمَا أنَّها تَتعلَّقُ بالتُراثِ والعِمَارَةِ والتَّاريخِ والأدَبِ والشِّعْرِ والقِصَّةِ والرِّوايَةِ والمُوسِيقَى والرَّقصِ والمَسرَحِ والفُنُونِ التَشكيليَّةِ والفِلكْلُورِ واللُّغَةِ والسُلُوكِ والقِيَمِ والأخلاق، والتي تَمَّ اسْتِخدامُهَا كَسِلاحٍ وإستراتيجيَّةِ دِفَاعٍ عَنِ الوُجود؛ ولِتعزيزِ المُقاوَمَةِ ضِدَّ كُلِّ أشكَالِ الاضْطِهادِ الَّذي يُمَارَسُ بِحَقِّـنَا كَشَعْب.
ومِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ أنَّ الكِيانَ الصَهيونيَّ يَسعَى لِطَمْسِ هُوِيَّتِنَا ووَضْعِ العَراقيلِ أَمامَ نُمُوِّنَا الثقافيّ، فقَدْ مَارَسَ الاحتلالُ- ومَا يَزالُ- سِياسَةً مَنهَجِيَّةً بَطيئةً مُنذُ عَشراتِ السِّنِينَ؛ لِمَحْوِ الهُوِيَّة، والأمثِلةُ على ذِلكَ كثيرةٌ ومُتعدِّدَةٌ، فمَثلاً قامُوا بِخَلْعِ الحِجارةِ القديمَةِ من مُدُنِنَا الفَلسطينيَّةِ كالقُدسِ المُحتلَّةِ، ووَضعُوا مَكانَهَا حِجارةً جَديدةً، واسْتَخْدَمُوا حِجارَتَنَا في مَتاحِفِهِمْ وَشَوارِعِهِمْ لمَحْوِ تاريخِنَا وكِتابَةِ تاريخٍ جديدٍ لهُم، كَما قامُوا باسْتِخدامِ تَسمِياتٍ عِبريَّةٍ على الشَّوارِعِ والمُدُنِ والقُرَى الفَلسطينيَّةِ؛ هَادِفِينَ بِذلكَ مَحْوَ التَّاريخِ والذَّاكِرة، وقدْ سَرقُوا أغانِينَا ودَبْكَتَنَا الشَّعبيَّةَ ومَأكُولَاتِنَا الفَلسطينيَّةَ "الفَلافِلَ والحُمُّصَ" والأزيَاءَ الشَّعبيَّةَ حتَّى شارَكُوا بإِحْدَى المُسابقاتِ العَالميَّةِ "اليوروفيزيون" بمَلابِسِنَا التُراثيَّة.
كَمَا أنَّ قائِمةَ التَّعدياتِ والمُمارَسَاتِ لِمَحْوِ الهُوِيَّةِ كثيرةٌ، ولَهَا أبعَادٌ سِياسيَّةٌ وثقافيَّةٌ تَهدِفُ "إسرائيلُ" من ورائِهَا إلى تَدميرِ مُقوِّمَاتِ الهُوِيَّةِ وتشويهِ مَعالِمِهَا الثقافيَّة.
ورَدَّاً على هَذهِ المُمارسَاتِ تَصَدَّيْنَا لَهُم ومَا زِلْنَا، ولَكِنْ لَا بُدَّ لَنَا مِن رَسْمِ خُطَّةٍ وإستراتيجيَّةٍ ثقافيَّةٍ لتعزيزِ الصُّمودِ والمُقاوَمةِ والحِفاظِ على الهُوِيَّة.
وتُعَدُّ مُؤسَّساتُ التعليمِ العَاليّ إحْدَى أهَمِّ المُؤسَّساتِ التي لَهَا دَوْرٌ كبيرٌ في تعزيزِ الهُوِيَّةِ الوطنيَّةِ لشُعوبِهَا، إضافةً إلى دَورِهَا الرئيسِيِّ في تعظيمِ الحِسِّ الوطنيِّ الجَمْعِيِّ وتشْكيلِهِ لَدَى الأفرادِ والأُمَم، خُصوصاً وأنَّ الجَامعاتِ تَعمَلُ على تَشكيلِ الوَعْيِ لَدَى أهَمِّ شَرائِحِ المُجتَمَعِ وهُمُ الطَلَبَةُ، سَواءً كانوا طَلَبَةَ البَرامِجِ الأكاديميَّةِ أوِ المِهَنِيَّة.
وَحَرَصْنَا في جامعةِ الإسراءِ على اتِّخَاذِ بَعضِ الإجراءاتِ في سَبيلِ تَعظيمِ دَورِهَا في تَعزيزِ الهُوِيَّةِ الفَلسطينيَّةِ لَدَى طَلَبَتِهَا، فمَثلاً خَصَّصَتِ الجَامعةُ مَساقاتٍ دِراسِيَّةً للحَديثِ عَنِ الهُوِيَّةِ الفَلسطينيَّة؛ بِهَدفِ تعظيمِ الشُعورِ الوطنيِّ لَدَى الطَلَبَةِ، وصَقْلِ الطَلَبَةِ بِالقِيَمِ والمَبادِئِ التي مِنْ شَأنِهَا أنْ تُخَرِّجَ طَلَبَةً أَكْفَاءَ قادرينَ على القِيامِ بِمُهِمَّةِ المُحافَظَةِ على وَطَنِهِم وهُوِيَّتِها ودَحْضِ الرُّوايَةِ الإسرائيليَّةِ الزَّائِفَة.
ومِن تِلكَ المَساقاتِ مُتطلَّبَاتُ الجامِعَة؛ إذْ تَفْرِضُ الجامِعَةُ على طَلَبَتِها بمُختَلَفِ التّخَصُّصاتِ والبَرامِجِ مَسَاقاتٍ لِتعزيزِ الوَعْيِ والثقافَةِ مِثلَ مَساقِ الدِّراساتِ الفَلسطينيَّةِ ومَساقِ تاريخِ القُدس، والتي تُعَـرِّفُ الطَلَبَةَ بِحضارةِ وتاريخِ وتُراثِ وهُوِيَّةِ الشَّعبِ العربيِّ الفَلسطينيِّ وأحَقِّـيَّتِهِ في هَذهِ الأرض.
كَمَا، تهتَمُّ الجامِعةُ اهتماماً بَالِغاً في تنظيمِ مَا يُعرَفُ بالأنشِطَةِ اللَامَنهجِيَّةِ والتي يُشترَطُ أنْ يكونَ من ضِمنِهَا أنشِطةٌ ذاتُ عَلاقَةٍ بالتُراثِ والهُوِيَّةِ والقِيَمِ الفَلسطينيَّة؛ وذلِكَ لِتعريفِ الطالبِ بهُوِيَّتِهِ الوطنيَّةِ الأصيلةِ، حيثُ تَهدِفُ الجامِعةُ عَبْرَ تِلكَ الأنشطةِ إلى صَقْلِ الطَلَبَةِ بالمَهاراتِ والمَعرفَةِ الَّلازِمَةِ لِتأهِيلِهِ لِسُوقِ العَمَلِ؛ ولِيكونَ مُدافِعاً صَلْباً عن حُقوقِهِ ولِيَستطيعَ تَعريَةَ مُمارساتِ الاحتلالِ ورُوايتِهِ المَزعُومَةِ تِجَاهَ أحقيَّتِهِم بِهذهِ الأرض.
كذلِكَ، تَحْرِصُ الجامعةُ على إحياءِ المُناسَباتِ الوطنيَّةِ والثقافيَّةِ الفَلسطينيَّةِ كافةً دَاخِلَ أرْوِقَتِهَا، وتُشْرِكُ طَلَبَتَهَا في عمليةِ تنظيمِ مِثْلِ تِلكَ المُناسباتِ والأيَّامِ الوطنيَّة؛ لِيَتِمَّ من خِلالِهَا تَعرِيفُهُم بِتلكَ المُناسباتِ، وتَعزيزُ مَعرِفَتِهِم بِكُلِّ مَا يرتبطُ بالهُوِيَّةِ المُستقِلَّةِ للشَعبِ الفَلسطينيِّ في مُختَلَفِ أماكِنِ وُجُودِه.
هذا، وتقومُ الجامِعةُ بالعديدِ مِنَ الأنشِطَةِ الأخرى التي تهدِفُ إلى تَثبيتِ القِيَمِ والمَبادِئِ المُشَكِّلَةِ للهُوِيَّةِ الفَلسطينيَّةِ الخَاصَّة، كتنظيمِ المُؤتمراتِ العِلمِيَّةِ والأيَّامِ العِلمِيَّةِ ذَاتِ الصِّلَة.
الأُخْوَةُ الأفاضِلُ الأُمنَاءُ على هُوِيَّتِنا وَسَدَنَةُ مَوْرُوثِنَا الثقافيّ.. نَقُولُ: "إنَّ المُحافَظَةَ على الهُوِيَّةِ الوطنيَّةِ يحتاجُ إلى رُؤيَةٍ وخُطَّةٍ إستراتيجيَّةٍ مُوجَّهَةٍ وليسَتِ ارتِجالِيَّةً وآنِيَّة، وهذا يَستدْعِي التركيزَ على مُقوِّمَاتِ الصُّمودِ، والحِفَاظَ على التاريخِ بالطُرُقِ كافةً وبالإمكانيَّاتِ والسُبُلِ المُتَاحَة".
ونرى أنَّهُ مِنَ الضروريِّ تَخصِيصُ بَرامِجَ دِراسيَّةٍ تتعلَّقُ بالهُوِيَّةِ الفَلسطينيَّة؛ لِتنمِيَةِ الوَعْيِ الجَمْعِيِّ الفَلسطينيِّ نَحوَ الهُوِيَّةِ الثقافيَّة؛ وتعزِيزاً للرُوايَةِ الفَلسطينيَّةِ الصَّادِقَةِ في مُواجَهَةِ الرُوايَةِ الإسرائيليَّةِ الزَائِفَة.
ولَا بُدَّ مِن أنْ تلتزِمَ الجامِعاتُ في مَناهِجِهَا الدِّراسيَّةِ ومَرافِقِهَا العِلمِيَّةِ وتَعامُلاتِهَا الإداريِّةِ باسْتِخدامِ المُصطَلَحاتِ الفَلسطينيَّةِ التي تُعبِّرُ عن ثقافَتِنَا، لا سِيَّمَا أنَّ مُصطَلَحاتٍ مَشبُوهَةً غَزَتْ أَلسِنَتَنَا ومَناهِجَنَا وتفاصِيلَ كثيرةً من حَياتِنَا؛ وهيَ –غالِباً- مُصطَلَحَاتٌ "غيْرُ بَريئة"، وتستهدِفُ إعادَةَ تشكِيلِ الوَعْيِ الفَلسطينيِّ والعربيِّ والإسلاميّ، بِمَا يتوافَقُ مَعِ المَساراتِ السِياسيَّةِ لِلمشاريعِ التَصْفَويَّة، وذَلِكَ أمْرٌ مُهِمٌ حتَّى لا تكونَ حَارَةُ المَغارِبَةِ حَارَةَ اليهود، وحتَّى لا يُصبِحَ حائِطُ البُرَاقِ حائِطَ المَبْكَى، وحتَّى لا يكونَ الاحتلالُ "دولةَ إسرائيل"، والقُدسُ أورشاليم، وحتَّى لا يُصبِحَ الحاجِزُ العسكريُّ مَعبَرَاً.
كَمَا، ونوصي بضَرورَةِ أنْ يكونَ هُناكَ بَرامِجُ تحفيزيَّةٌ للطَلَبَةِ والمُوَظَّفِين، مِمَّنْ يَبذُلُونَ دَورَاً في تعزيزِ الثقافَةِ الوطنيَّةِ والهُوِيَّةِ الفَلسطينيَّة، ولَا بُدَّ مِن أنْ تَشتغِلَ الكُلِّيَّاتُ الجامِعيَّةُ وأقسامُهَا بالأبحاثِ والدِّراسَاتِ التي تُعزِّزُ الثقافَةَ الوطنيَّة، ولَا بُدَّ أنْ تَشتغِلَ الكُلِّيَّاتُ والأقسامُ (طَلَبَةٌ وأعضاءُ هَيئةِ تدريس) بالتوثيقِ والتَأْرِيْخِ المِهَنِيِّ والعِلْمِيِّ لهُوِيَّتِنَا، وَلَا بُدَّ أنْ تُشكِّلَ في سِبيلِ ذَلِكَ المُلتَقَيَاتِ والمُنتدَيَاتِ واللِّجَانَ وأنْ تَكتُبَ المَوسُوعَاتِ؛ خِدْمَةً لهُوِيَّتِنَا وثقافَتِنَا الفَلسطينيَّة.