لا يعيش الفلسطيني مراحل عمره كسائر البشر، فالطفل لدينا لا يرمي الكرة داخل المرمى، إنما يصوب حجارته إلى مرماه الأساسي بوجه العدو الصهيوني. أما الشاب، فقد يراهق على حدود الوطن، مقدمًا نفسه فداء لفلسطين؛ تمامًا كما حدث مع الأسير المحرر ياسر المؤذن، ذاك الشاب اليافع ذو الستة عشر عامًا الذي اختار أن يحمل بندقيته، ويقف على حدود فلسطين المحتلة، يتأمل جبالها ووهادها وسهولها، مستأنسًا بإطلالتها البهية، مستمتعًا بجمالها، بدل أن يحمل حقيبته، ويقف على أبواب المدارس، يترقب حظه، ويختلس النظر إلى الطالبات، كما يفعل معظم اليافعين المراهقين، علّه يحظى بأنيسة دربه.
العملية الفدائية
بتاريخ 28/5/1989 توجّه ياسر، بتكليف من قيادته في "جبهة التحرير الفلسطينية" التي ينتمي إليها، لتنفيذ عملية فدائية مشتركة مع رفاق في "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. كانت مهمة المجموعة اقتحام مستعمرة "المطلة"، واستهداف مواقع عسكرية صهيونية، وقتل جنود من جيش الاحتلال مقابل كل شهيد فلسطيني سقط على ساحة الوطن، ومحاولة أسر جنود صهاينة، ليتم فيما بعد إجراء صفقة تبادل أسرى مقابلهم.
وكان من ضمن الخطة، بناء على التنسيق المسبق مع حزب الله، أن يتم قصف المستعمرة بصواريخ "الكاتيوشا"، بالتزامن مع هجومهم على المستعمرة.
وبعدما انطلق ياسر ورفاقه لتنفيذ العملية، وخلال طريقهم نحو هدفهم، تفاجأوا بمباغتة العدو لهم، ليستشهد شابان من أفراد المجموعة، ويشاء القدر أن يقع ياسر وأحد رفاقه في الأسر.
زنزانة التحقيق
بعد رحلة تحقيق شاقة، داخل زناين التحقيق العسكرية التابعة لاستخبارات جيش العدو الصهيوني، المعروفة بزنازين "الصرفند" ومجهولة المكان، قبع ياسر في زنزانة صغيرة، حيطانها مطلية بطلاء أحمر خشن، لا يوجد فيها سوى سرير من "باطون"، وحمام ملاصق لسرير الأسير، وضوء ساطع ينبعث من "بروجكتر" مسلط على وجه ياسر.
أما صنبور المياه فيتحكم به السجان، يفتحه في وقت معين، بحسب مزاجه، وعلى الأسير أن ينهي أموره قبل أن يغلقه. كذلك الأمر بالنسبة للاستحمام، ينادي السجان مرة واحدة بأنه قد حان وقت الاستحمام، وعلى الأسير أن يسرع راكضًا لخلع ملابسه والاستحمام قبل أن تُقطع المياه، وفي أغلب الأحيان كان ياسر لا يستطيع الانتهاء من الاستحمام.
وفيما يتعلق بوجبة الطعام، يقوم السجان برميها من داخل منفذ الباب الموازي للحمام، من أجل أن تقع على أرض الحمام، ويُحرم الأسير من تناول وجبة طعامه. وهذا نوع من أساليب التعذيب النفسي التي كان يستخدمها العدو لإذلال الأسير وقهره... فيكون الأسير هنا في حالة سباق مع وجبة الطعام، ليلحق بها ويمسكها قبل أن تدنس.
مسبحة الزيتون
على الرغم من كل محاولات العدو قمع الأسير، وانتزاع إيمانه، وكسر إرادته، وزعزعة صموده، وإضعاف معنوياته، وكبت مقاومته، وإهانته والانتقاص من كرامته، إلا أن ياسر ظل علقمًا بحلق المحتل والسجان، وشامخًا كالصبار يغرز بأشواكه كل من يحاول أسر روحه المقاومة.
قام ياسر بجمع ثلاث وثلاثين حبة من نواة الزيتون، وأخذ الخيطان من "المنشفة" التي بحوزته، حتى صنع منها مسبحة، يسبح بها ربه بكرة وعشيًّا. غير عابئ بقوانين الاحتلال، فهي لا تمر بجانبه، وهو لا يخضع لها، ولا يعطي لها بالاً، وهو العنيد المشاكس، وقاضي نفسه وآمرها... فكان ثائرًا محررًا رغم أسره.
كان يتبادل الحديث يوميًّا مع صديقه "هاشم فحص" الذي كان يقبع في الزنزانة المجاورة لزنزانته، وعندما أخبره أنه استطاع صنع مسبحة سمعه السجانون، فسارعوا إلى زنزانته لمصادرتها، ولكنهم فشلوا في عملية البحث، ولم يعثروا عليها. وعندما ذهبوا، سأله هاشم: هل صادروا المسبحة؟ فأخبره بأنها ما زالت معه، وأسمعه صوت "خشخشتها" الذي وصل إلى آذان السجانين، الأمر الذي أثار جنونهم.
وتتالت الأيام، وعمليات التفتيش كانت تبوء بالفشل. وفي كل مرة، بعد يخرج السجانون من زنزانته، يقوم ياسر بإسماع صديقه صوت المسبحة، ليطمئنه أنها ما زالت معه.
وبعد أيام عديدة من عمليات التفتيش الفاشلة، وعجزهم عن العثور عليها في زنزانة صغيرة جدًّا، وبسبب الثغرة الأمنية التي أحدثها ياسر، والإرباك الذي أوقعهم فيه، اضطر السجانون للتفاوض معه، من دون أن يصلوا إلى نتيجة، لإخبارهم عن مكان المسبحة، وكشف المخبأ الذي يخفيها فيه.
أما عن مكان المسبحة، فقد كان يخبئها خلف باب الحديد داخل "المفصلة"، لأنها منطقة معتمة جدًّا، بسبب قوة ضوء "البروجكتر" المعاكسة لها. وكان بمجرد أن يسمع صوت الباب الرئيسي وهو يفتح، يسرع لإخفائها. حتى أصبحت لعبة بالنسبة له ولهاشم الذي كان يصرخ ضاحكًا كل يوم، ويقول له: "أخدوها منك خلص ما تقول لا". ليرد عليه ياسر: "له يا عمي شو ياخدوها هياها ها اسمع صوتها".
أشكال هندسية على حائط الزنزانة
خشونة الحائط التي صممها الاحتلال لإزعاج الأسير، استخدمها ياسر لتزيين زنزانته، وتحويلها إلى متحف يمضي به وقته، ويرفّه فيه عن نفسه. فكان يقوم بجمع صحون البلاستيك بعد الانتهاء من تناول طعامه، ليصنع منها وجوهًا، ويلصقها على الحائط من خلال الضغط عليها بيده.
وعندما أتى المحققون، ورأوا ما فعله، صدموا ببرودة أعصابه حين سألوه عمّا يقوم به، وأجابهم: "هششش ولا صوت، هول أهلي نايمين عندي". فكاد المحقق أن يجنّ بسبب حالة الهدوء والسلام الداخلي التي يعيشها ياسر، بعكس الحالة التي يريدونه أن يكون عليها. فهم يريدونه أن يعيش تحت ضغط نفسي شديد، ليصل إلى حالة يسارع فيها راكضًا متوسلاً إليهم، طالبًا منهم أن يخبروه ماذا يريدون أن يفعل مقابل تحريره من الأسر، إلا أنه كان آخر همه أن ينال حريته مقابل ضعفه وانكساره وخسارته لنفسه.
ثعبان في الزنزانة
مسلسل التعذيب بمختلف أشكاله يرافق الأسير منذ اللحظة الأولى لاعتقاله، لكن ياسر كان ثقيلاً على الاحتلال، وكان يرد الاستفزاز بالاستفزاز، ليسجل أهدافًا كثيرة ضد الاحتلال. فعند إدخال السجان ثعبانًا إلى زنزانته، بهدف تخويفه وترهيبه، واصفًا الثعبان بأنه "عزرائيل" الذي سيأخذ روحه، نظر إليه ياسر بكل برودة أعصاب، وأخبره بأنه تربى بين الأفاعي، ولا يهابها، وأنه يعلم أن هذا النوع من الأفاعي لا يؤذي، وهو ثعبان بيت يربيه من يهوى الثعابين. لينسحب السجان، ويعود بخفي حنين، من دون أن يصل إلى هدفه الخبيث، بالنيل من عزيمة ياسر وشجاعته.
موسيقى مزعجة
عندما كان جنود الاحتلال يرفعون صوت الموسيقى عاليًا، بهدف إزعاج ياسر، كان ينادي عليهم، طالبًا منهم أن يرفعوا الصوت أكثر وأكثر، كي يستمتع بها، ويرقص على أنغامها، ويطرب بالغناء مع إيقاعها... ليرتد الأمر عليهم، ويخيب أملهم في تحقيق هدفهم، وبدل أن ينجحوا في إزعاجه كان ينجح هو في إزعاجهم، فينطبق المثل عليهم: "انقلب السحر على الساحر". وكان الجنود يتعجبون من ردة فعله، ويستغربون طلبه، ويكررون سؤاله عن مدى جدية كلامه، وإذا ما كان يستمتع حقًّا بهذه الموسيقى المزعجة!...
استطاع ياسر أن يكون رقمًا صعبًا داخل زنازين الاحتلال، فالعملية الفدائية التي لم يستطع إتمامها عسكريًّا، ظل مصرًّا على تحقيقها وهو في الأسر، بأشكال مختلفة، وبما أتيح له من وسائل. وفي هذا السياق تأتي محاولته رمي "مولوتوف" يدوي الصنع داخل محكمة الاحتلال... وهذا ما سنروي تفاصيله في الجزء الثاني من حكاية "ألف استفزاز واستفزاز"، فلياسر مغامرات كثيرة، خلال سنوات أسره التي أمضاها داخل سجون الاحتلال، قصّها علينا وكأنه يعيش تفاصيلها اللحظة، بروحية المقاوم الواثق بالنصر.