غزة

19°

وكالة شمس نيوز الإخبارية - Shms News || آخر أخبار فلسطين

صراع الفلسفة في ميدان أوكرانيا

الحرب في أوكرانيا
بقلم/ محمد جرادات

بين الحكمة والرصاصة مسافة فكرة يطلقها الفيلسوف من كهفه حتى تستقر في عقل السياسي، فيترجمها وفق رصيد قوته العسكرية والاقتصادية، فإذا نبعت حكمة الفيلسوف من إطار إنساني، دار عقل السياسي في عالم القيم الأخلاقية، وإذا شطّت في درك الأطماع والشهوات، بلغ بها سعار السياسي أقصى فظائع الاحتراب.

في ميدان أوكرانيا، تقمّص السياسي الغربي دور الفيلسوف عقب الاندفاع الروسي في أعماقه، حتى خرج وزير خارجية أميركا أنتوني بلينكن في الآونة الأخيرة ليتماهى مع شعارات الفلسفة الغربية الخادعة، وهو يقول: "يمكن لروسيا أن تُطفئَ الأضواء في جميع أنحاء أوكرانيا بالطائرات المسيّرة، لكنها لا تستطيع إطفاء الروح الأوكرانية"، وهو السياسي نفسه الذي قال في اليوم نفسه، ولكن في مكان آخر، وبشكل عكسي، تعقيباً على أحداث نابلس: "لدينا مخاوف جدّية إزاء العنف الذي نشهده في الضفة الغربية"، ففي أوكرانيا روح أوكرانية تقاوم، ولكنها في فلسطين مجرد أحداث عنف تبعث على الخوف، وهو ذاته، وفي اليوم ذاته، كان ينشد حرية المرأة الإيرانية في مواجهة الحجاب الإسلامي.

تناقضات السياسة الغربية هي انعكاس حادّ لرؤية الفلسفة الغربية في كل مدارسها. وقد حاول التعبير عن تشرذمها رائد الفلسفة الألمانية الراهنة هارتموت روزا، وهو يطلق عليها "الحداثة الليبرالية الموسّعة"، إذ تتجلى القطيعة في أعمق تجلياتها بين الحكمة والعلم من جهة، وبين السياسة والقانون من جهة أخرى، وهي قطيعة أدخلت العقل الغربي في انفصام شموليّ، حتى وجد بالميدان الأوكراني فرصة نادرة لتحديث أبجدياته وفق شعاراته القديمة، فهل نجح في ذلك؟

فشل الفكر الغربي في الامتحان الأوكراني منذ أسبوعه الأول، عندما تجلّت إسقاطاته الإعلامية بشكل عنصريّ مقزز، عبر التفريق بين عيون الأوكرانيات الزرق وبشرتهن البيضاء وكل لاجئي العالم من سوريا حتى أفغانستان، فالمفصل في تجلّيات الفلسفة الغربية ليس للقيم الإنسانية، ولكنها العنصرية الأوروبية بما يشبه البهيمية، بما يؤكد حقيقة الفكر الغربي في جوهره، بعيداً من قطيعة روزا التبريرية الراهنة، لما هي فلسفة "أنماط البشر" باعتبار سود البشرة من الناس يقعون في رتبة بين الإغريق والشامبانزي، حتى إن البيولوجيين الغربيين حاولوا البرهنة على هذا الأمر بأدوات "علمية"، واصطلحوا عليه بـ"العنصرية العلمية"، وهو ما جاهر به إريك زمور، مرشح الرئاسة الفرنسي، في نيابة ضمنية عن كل ساسة الغرب، قائلاً: "نعم لهجرة المسيحيين البيض، ولا لهجرة العرب والمسلمين. أعلم أن الأوكرانيين شعب أوروبي مسيحي، وهو بالتالي أقرب إلينا كثيراً نحن الشعب الفرنسي من موجات الهجرة القادمة من الدول العربية والإسلامية أو الشرق أوسطية".

برز هذا الفشل المريع للفكر الغربي المعاصر عبر المختبر الأوكراني والسوري، وهو فكر تمتد جذوره عبر كل المدارس الفلسفية في تبريرها للاحتراب الوحشي، منذ أن اعتبر الهولندي غروسيوس (1645م) أنّ الحرب تعكس "حال القوى المتنافسة" في الميدان، إلى الألماني كارل فون. وقد رأى في الحرب "استمرار السياسة بواسطة وسائل أخرى" تأكيداً لما سبق أن أسس له هيراقليطوس (535 ق. م).

واعتبر أن الحرب أصل الأشياء كلها، ليستقر حال الفكر الغربي على الفلسفة الأميركية في أبشع تجلياتها: هنتينغتون في "صدام الحضارات" في رؤية علمانية شمولية، وفوكاياما في "نهاية التاريخ" ضمن باعث ديني بروستانتيّ تلموديّ، فالحرب في الفلسفة الغربية هي أصل كل شيء، وهي تأصيل للسياسة المنبعثة من العقل الرأسمالي المادي، في رد الأمور إلى واقع القوى المتصارعة وإمكاناتها وقدرتها على فرض وقائعها الميدانية.

وقد اعتادت منذ عقود إشعال الحروب في الشرق الأوسط أو هي أرض "الغنيمة والقبيلة والعقيدة" المستباحة في الشريعة الغربية. وانقضى عقدها الأخير في أبشع مآلاته: سوريا، حيث فشلت السياسة الغربية أمام الحلف الشرقي (السوري الإيراني الروسي).

فشلت الحرب على سوريا، وسقط الرهان على الغرب، فإذا به يأخذ روسيا للدفاع عن فضائها الاستراتيجي. وقد استباحه عبر نظام اصطنعه في أوكرانيا، وهيأه ليدخل حلف الأطلسي، بما يجعل موسكو تحت تهديد وجودي مباشر، سواء بنصب صواريخ الأطلسي عبر الحدود أو بالمختبرات البيولوجية المحاذية، والأهم تهديد المنظومة الفلسفية الخاصة بمنطقة (أوراسيا)، وبتعبير بوتين، من يزرع ريحاً يجنِ عاصفة، وهو ما يطرح سؤالاً عاصفاً عن حقيقة الفارق الفلسفي وإسقاطاته السياسية بين روسيا من جهة، وعموم الغرب من جهة أخرى، ليتبيّن مستوى التناقض في الميدان الأوكراني الأخلاقيّ أو القيميّ أو الفكريّ.

قبل 5 عقود، كان زعماء الأصولية الإنجيلية الأميركية يدعون إلى استخدام السلاح النووي لتدمير جيوش الشر التي تضم روسيا والعرب، فيما يعرف بحروب نهاية الزمان للتعجيل بعودة المسيح، وجاءت حقبة ترامب في العصر الأميركي، لتنقل الصراع العالمي نقلة حادّة ضمن رؤية بروتستنية متشنجة. وقد تبين أن زعامة بايدن اللاحقة ظلت في مجملها امتداداً لسياسة الدولة العميقة في تسعير هذا الصراع، وهو صراع منبعه فلسفيّ بين ثقافتين؛ شرقية وغربية. وقد ظلت كل السياسات الغربية تنصب في إطارها.

تمتدّ روسيا في آسيا وأوروبا أو عبر ما بات يعرف بالأوراسية. وقد أطلق الفيلسوف الروسي ألكسندر دوغين من الأوراسية نظريته الجيوسياسية، لتتموضع كفلسفة رابعة عالمياً، ومنبعها ليس الفرد (كما في الليبرالية)، ولا الطبقة (كما في الماركسية)، ولا الأمة (كما في الفاشية)، بل من خلال صياغة نظرية تقوم على فلسفة تؤمن بعالم متعدد وأخلاقي وباعث أرثوذكسي يعترف بالشعوب الأخرى وبحريتها بعيداً من قيم المركزية الغربية المفروضة. وتحترم هذه الفلسفة التقاليد والعائلة والأديان.

وتشمل أوراسيا، بحسب دوغين، 4 حضارات: الروسية، والصينية، والهندية، والإيرانية. ويرمز لتلك المنطقة بـ"الحضارات الأرضية"، وهي في حالة صراع أبدي مع ما يسميه "الحضارات البحرية أو الأطلسية"، التي كانت تمثلها قديماً بريطانيا وفرنسا، والآن أميركا.

وكان الرئيس الروسي بوتين أعلن تأييده المطلق لنظرية أوراسيا الدوغينية عام 2011م، وتناول محاورها مراراً على امتداد شهور الحرب في أوكرانيا، في ترجمة شبه حرفية لما اعتبره دوغين "الأيديولوجية الاجتماعية المحافظة"، كبديل من "الليبرالية الديمقراطية الغربية"، وهو يؤكد احترام القيم التقليدية الخاصة بكل شعب، مستنكراً عمى الفوقية الليبرالية، ومحاولة الغرب القضاء على قيم العائلة الشرقية وفرض الشذوذ الجنسي والمثلية.

كلَّما اشتد لهيب الميدان الأوكراني، لجأ السياسيون الغربيون والروس لتجذير أصل الصراع، بما يعيده إلى مهده الفكري، وهو ما يفسر دخول كبار الفلاسفة إلى هذا المعترك مبكراً، فدوغين رأى في الصراع الراهن صراع وجود لا مجال فيه لهزيمة روسيا، فيما استنفر فلاسفة الغرب، فوروارد وبازرجان ودافيدوفيتش وفينلي وهيلين فرو، في مواكبة الميدان الأوكراني، وخصوصاً في التباكي الأخلاقي على المدنيين الأوكران، وفي الوقت ذاته تشريع الحرب فلسفياً، بذريعة الأنفة الأوكرانية. وقد أجمعوا على ضرورة المقاومة المسلحة، وجهدوا في تأصيلها الفكري.

التأصيل الفلسفي الغربي الحالي للصراع ضد روسيا عبر النافذة الأوكرانية هو فرصة مهمة لكل باحث عن حقيقة الوجود وماهية الواقع وضرورة النهوض الإنساني، في عالم يستبيحه الغرب ضمن باعث فلسفي قيميّ، بما يخلق أمام الشرق عامة، وأمة الإسلام خاصة، مسارات فكرية لتقديم نفسها كمنقذ أخلاقيّ مؤهل لبناء صرح حضاري جديد على حطام على ما ستؤول إليه نهاية التاريخ. وقد تسارعت وتيرة تمزقه بين العلم والسياسة، كما بين الحداثة والقيم.

"جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "شمس نيوز".