ونحن نودع عام 2022م ونستقبل عام 2023م، وبينما أحداث الصراع بين الكيان الصهيوني الغاصب لفلسطين والشعب الفلسطيني الصامد تشتد وتتصاعد، كان هناك صراعاً من نوعٍ آخر يدور على الساحة الفلسطينية داخل الفكر السياسي الفلسطيني بين الأوهام والحقائق الخاصة بالصراع، كان فيها عام 2022م شاهداً على سقوط بعض الأوهام وترسيخ بعض الحقائق المُبدِدة لها، ومنها أوهام: زوال (إسرائيل) عام 2022م بانتظار وعد الآخرة، وإنجاز الدولة الفلسطينية بوجود الكيان الصهيوني، وإنهاء الانقسام الفلسطيني بتحقيق المصالحة، وإصلاح منظمة التحرير الفلسطينية بوجود فكرها السياسي الحالي، وإمكانية التعايش مع الاحتلال أو تأجيل الصراع معه، ولأهمية الوعي بهذه الأوهام وإدراك الحقائق المُبدِدة لها من المُفيد تناولها بشيء من التفضيل.
وهم زوال (إسرائيل) من الوجود عام 2022م، بناء على نبوءة بشرية حددت توقيت تحقق وعد الآخرة في عام 2022م، هذا الوهم بُنيَ على أساسٍ غير صائب قاعدته منهج التأويل الرقمي الظني لآيات القرآن الكريم، وهو منهج أقرب للشعوذة الرياضية التخمينية، والاستشراف غير العلمي للمستقبل، وأبعد ما يكون عن المنهج الإسلامي في تفعيل الدور الإنساني لتحقيق الوعد الإلهي، فالتاريخ ليس قاعة انتظار على رصيف أحلام وعد الآخرة، والسُنن التاريخية لا تُحابي أو تُجافي أمةً دون غيرها، وقوانين الحضارة لا تتبدّل أو تتحوّل بأماني شعب دون غيره..
والحقيقة المُبدِدة لهذا الوهم هي أنَّ زوال (إسرائيل) بموجب وعد الآخرة حتمية مستنبطة من آيات القرآن، وسُنن التاريخ، ومعطيات الواقع، ولكن توقيت تحقيق هذه الحتمية مرتبط باكتمال شروط النصر والتمكين، وباستكمال إغلاق دائرة التدافع الحضاري بين الحق الفلسطيني العربي الإسلامي، والباطل الصهيوني الغربي الاستعماري، وصولاً إلى حسم الصراع في ملحمة وعد الآخرة لصالح الأمة ورسالتها العالمية، وهذا يرتبط بالضرورة بالجهد البشري من الشعب الفلسطيني مدعوماً بالأمة العربية والإسلامية، ليلتقي الجهد البشري بالقدر الإلهي في وعد الآخرة.
ووهم آخر سقط منذ انتهاء المرحلة الانتقالية لاتفاقية أوسلو عام 1999م، ولكنه تأكد عام 2022م من خلال فوز كتلة نتنياهو الصهيونية بشقيها العلماني والديني في الانتخابات الإسرائيلية، وهو وهم الدولة الفلسطينية المستقلة بوجود الكيان الصهيوني وموافقته في إطار التسوية السلمية، وهو وهم بُنيَ على أساس غير صحيح، أهم فرضياته: أنَّ الكيان الصهيوني سيعطينا جزءاً من أرض فلسطين هي الأرض المحتلة عام 1967م؛ إذا تنازلنا لع عن معظم أرض فلسطين هي الأرض المحتلة عام 1948م، وأنَّ الكيان الصهيوني يُمكن أن يقبل كياناً نقيضاً له ما بين البحر والنهر بخلاف طبيعته الإحلالية الاستيطانية التوسعية، وطبيعة الصراع الوجودي معه، وأنَّ الضغط الدولي الغربي يمكن أن يصل لدرجة إجباره على القبول بدولة فلسطينية تُهدد وجوده المرتبط بالمشروع الغربي الاستعماري.
والحقيقة أنَّ هذا الوهم قد نشأ بعد تراجع المشروع الوطني الفلسطيني بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية من هدف التحرير الكامل لفلسطين من البحر إلى النهر، إلى هدف الدولة الفلسطينية المستقلة على أي جزء يتم تحريره من أرض فلسطين في إطار البرنامج المرحلي، الذي انحرف من مرحلية التحرير إلى مرحلية التسوية، فقادت المنظمة إلى توقيع اتفاقية أوسلو، واستبدلت الدولة بالسلطة كمرحلة انتقالية للدولة... وهكذا تعمّق الوهم الذي بدده الواقع وحقيقة العودة إلى الأصل، وهو هدف التحرير الكامل لفلسطين بالمقاومة، وبعد التحرير تُقام الدولة الفلسطينية المستقلة.
وفي عام 2022م شهد (إعلان الجزائر) كاتفاقٍ آخر للمصالحة الفلسطينية، وهو إعلان سياسي نظري يفتقد لمقومات التطبيق العملي على الأرض، وقد ذهب مع ريح عام 2022م كغيره من اتفاقيات المصالحة التي تنقلت بين عواصم العرب والعجم على مدار السنوات السابقة، لتُنهي وهم إنهاء الانقسام الفلسطيني بهذه الطريقة غير المجدية؛ لأنه بُنيَ على أساسٍ غير سديد يفترض أنَّ الطرف الرئيسي في الانقسام يمتلك حرية الإرادة السياسية لإنهاء الانقسام وإنجاز المصالحة في ظل الاحتلال، ويفترض أنَّ السلطة كمؤسسة تمتلك القدرة الذاتية على تغيير وظيفتها المُحددة لها مسبقاً في اتفاقية أوسلو، ويتجاهل الهدف المُراد للمصالحة في إدخال فصائل المقاومة الفلسطينية في بيت الطاعة الصهيوأمريكي بعد دمجها في النظام السياسي الفلسطيني المحكوم بسقف أوسلو والاحتلال، ويتجاهل الإطار المُحدد للمصالحة في إدارة سلطة تتعايش مع الاحتلال، وليس بناء سلطة تحتضن مقاومة الاحتلال.
ولهذه الأسباب تبدد وهم إنهاء الانقسام الفلسطيني وضاعت فرص المصالحة الفلسطينية، وظلت صخرة الاحتلال ووظيفة السلطة وهدف المصالحة عقبات تحول دون تحقيق المصالحة... ولا مناص من التخلي عن هذا الوهم الذي لن يتحوّل إلى حقيقة إلاّ بتغيير المسار جوهرياً بذهاب قوى المقاومة إلى مشروع الوحدة الوطنية مباشرة، الذي يمر عبر مشروع المقاومة والتحرير باتفاق الفلسطينيين على الهدف (تحرير فلسطين) والوسيلة (المقاومة الشاملة).
ويرتبط بوهم إنهاء الانقسام وهم إمكانية إصلاح منظمة التحرير الفلسطينية بوجود الفكر السياسي الحالي للمنظمة، هذا الوهم بُنيَ على أساس غير ثاقب يُقدّس منظمة التحرير الفلسطينية كإطار وطني ومُسمى سياسي، ويتهاون بشأن الأهداف الوطنية والمضامين السياسية التي أُنشئت من أجلها المنظمة، ويتجاهل الفكر السياسي العقيم الجامد، القائم على نهج التسوية وانعدام خيارات فريق أوسلو المهيمن على المنظمة رغبةً في احتكار شرعية تمثيل الشعب الفلسطيني، وما يترتب عليها من امتيازات سياسية ومعنوية.
والحقيقة التي تحررنا من وهم إمكانية إصلاح المنظمة بوجود فكرها السياسي الحالي هي التحرر من تقديس الأُطر الوطنية والمُسميات السياسية إذا فرغت من أهدافها التحررية ومضامينها الثورية، للتركيز على مشروع التحرير، فمشروع تحرير فلسطين كهدف ومضمون أهم من منظمة التحرير الفلسطينية كإطار ومُسمّى. وهذه الحقيقة تقودنا إلى ضرورة تغيير الفكر السياسي للمنظمة لإزالة عقبة إصلاحها المركزية، أو تشكيل جبهة وطنية مقاومة تضم كل من يؤمن بمشروع المقاومة والتحرير، وحاضنتها الشعب الفلسطيني، وهدفها التحرير والعودة، وركيزتها الصمود والمقاومة، وعمقها الأمة العربية والإسلامية.
آخر الأوهام هو وهم إمكانية التعايش مع الاحتلال أو تأجيل الاشتباك معه، هذا الوهم بدده عام 2022م بفعل تصاعد المقاومة الفلسطينية ضد الكيان الصهيوني في كل الأرض الفلسطينية مُجسداً بالاحتلال والحصار والاستيطان والتهويد والعنصرية وغيرها، وقد كانت معارك قطاع غزة وآخرها (وحدة الساحات)، واشتباكات المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية وطليعتها كتيبة جنين واخواتها التابعة لسرايا القدس الذراع العسكري لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، وتمسك الشعب الفلسطيني في الداخل المحتل عام 1948م بحقوقه الوطنية وهويته الفلسطينية، خير دليل على إنهاء وهم التعايش أو التأجيل، لأنه وهم بُنيَ على أساسٍ غير منطقي معزول عن طبيعة الكيان الصهيوني الاستيطانية الإحلالية وطبيعة الصراع الوجودي معه، وأساسٍ غير واقعي يناقض تجارب حركات التحرير الوطنية السابقة، وأساسٍ غير ثوري قاعدته: نظام سياسي فلسطيني يستخدم مشروع التحرير وسيلة للتعايش مع الاحتلال، وأرضيته حركة وطنية فلسطينية توّظف نهج المقاومة أداةً لتأجيل الاشتباك مع الاحتلال.
والحقيقة المُبدِدة لهذا الوهم هي الذهاب إلى بناء نظام سياسي فلسطيني بوصلته المشروع الوطني الفلسطيني، مشروع المقاومة والتحرير، فلا معنى لأي نظام سياسي يتعايش مع الاحتلال، ولا قيمة لأي حركة وطنية تؤجل الاشتباك مع الاحتلال إلى مرحلة زمنية مجهولة، ولا أهمية لأي إطار وطني أو سياسي يتهرّب من استحقاقات مرحلة الكفاح الوطني لتحرير فلسطين.
إذا كان عام 2022م هو عام تبديد الأوهام، فإنَّ عام 2023م سيكون عاماً لترسيخ الحقائق: حتمية زوال (إسرائيل) بموجب وعد الآخرة الإلهي بعد العمل البشري بجهاد ومقاومة الشعب الفلسطيني والأمة العربية والإسلامية بعيداً عن وهم الانتظار على رصيف وعد الآخرة. وضرورة العودة إلى هدف التحرير الكامل لأرض فلسطين بالمقاومة الشاملة بعيداً عن وهم الدولة الفلسطينية المستقلة بجانب الكيان الصهيوني، وأهمية الذهاب إلى الوحدة الوطنية من بوابة مشروع المقاومة والتحرير بعيدا عن وهم اتفاقيات المصالحة العقيمة، والحاجة إلى تشكيل جبهة وطنية مقاومة تقود الحركة الوطنية الفلسطينية ومشروعها الوطني التحرري بعيداً عن وهم إصلاح منظمة التحرير بفكرها السياسي الحالي، وأولوية بناء نظام سياسي فلسطيني يوجد أرضية صلبة لمقاومة الاحتلال واستمرار الاشتباك معه بعيداً عن وهم التعايش مع الاحتلال أو تأجيل الاشتباك معه.