عندما تقع أكبر كارثة طبيعية في القرن، فإننا نكون أمام أعظم اختبار لمجمل الأفكار والفلسفات والسياسات العالمية، فكيف وقد أعلنت منظمة الصحة العالمية أنها "شاهدة على أكبر كارثة طبيعية في منطقة الفرع الأوروبي"، وهو الفرع الذي يضم 53 دولة، منها تركيا!
هذه التخصيص المهني الصادر عن جهة اختصاص يضع الفكر الغربي والسياسات المنبثقة منه أمام اختبار مفصلي سيكون له ما بعده من تغييرات جوهرية.
إن أوروبا، بحسب كبير السياسة في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، هي "حديقة يعمل كل شيء فيها بشكلٍ سليم. إنها أفضل مزيج نجحت البشرية في بنائه ليجمع بين الحرية السياسية والرخاء الاقتصادي والتماسك الاجتماعي. أما بقية العالم، فهو أشبه بغابة، وتستطيع الغابة أن تغزو الحديقة. لهذا، على البستانيّين أن يذهبوا إلى الغابة، ويجب أن يكون الأوروبيون أكثر انخراطاً في بقية دول العالم، حتى لا تغزونا بقية دول العالم بمختلف الطرق والوسائل".
أعظم كارثة زلزالية في هذا القرن وقعت داخل الحديقة الأوروبية، بحسب منظمة الصحة، وليس في كثبان الغابة المترامية، فهل جاء التحرك الأوروبي والغربي بمستوى الحد الأدنى للكارثة أو أن تقيؤات مجلة "شارلي إيبدو" الفرنسية كانت الأكثر تعبيراً عن حقيقة الشعور الغربي تجاه الكارثة، بما تجاوز الشماتة، لعدم الحاجة الغربية إلى إرسال الدبابات، وقد تكفل الزلزال بالمطلوب!
الانخراط الأوروبي المطلوب، بحسب كبير أوروبا، هو انخراط استباقي يتغلغل في كل دول العالم، وهو بالتأكيد انخراط شمولي على جميع الأصعدة، تحسباً للغزو المضاد، بمعنى أن خير وسيلة للدفاع هي الهجوم، في صياغة ذهنية فلسفية تقوم على الصراع الحتمي بين البشر.
حقائق التاريخ لا تخفي أسبقية أوروبا في استعمار العالم، حتى قبل ثورتها الصناعية، ومنذ الروم والفرنجة وبيزنطة والحروب الصليبية حتى عصرنا الراهن، والإرث البريطاني في فلسطين، حيث ذروة التوحش الأوروبي بتركة بلفور ووعده المشؤوم بإقامة وطن قومي لليهود على حساب الشعب الفلسطيني وكل شعوب المنطقة، وهو الوطن الذي احتل في المنظومة الفكرية والسياسية الغربية مكان الصدارة على كل المستويات.
وقد رأينا ممثليه في الكنيست كيف فزعوا لمجرد محاولة نائبة عربية التعزية بضحايا الزلزال، وخرج كبيرهم حاخام صفد ليتشفى بهم، باعتبار ما جرى عدالة إلهية في معاقبة سوريا التي تعادي "إسرائيل"، وتركيا التي تشوّهها في المحافل الدولية!
ظلَّت الفلسفة الغربية تنظر إلى الغرب باعتباره صاحب أعظم حضارة إنسانية في التاريخ، لكونها جمعت بين الحرية والرخاء والتماسك، وأثمرت بستانيّين يخرجون كل صباح من الحديقة لتفقد الغابة المحيطة، أو هم رجال السياسة الخارجية ورسل الثقافة الغربية، الذين لا تصدهم صحاري أفريقيا ولا جبال أفغانستان ولا حتى ثلوج سيبيريا عن نفث عبق ورود الحديقة الأوروبية لتستجم في فضائها كلّ أركان الغابة الإنسانية.
بين النظرية والواقع بون شاسع، فالفكر الغربي، سواء بلغ ذروته الحادة في صدام الحضارات عند الأميركي هتنتغتون أو في المثالية الألمانية عند هيغل وشلنج وهولدرلين، ثمة مفارقة واسعة بين جوهر هذا الفكر باعتباره المادي وشعاراته الأخلاقية وسياساته الوحشية، وهو ما ظهر في الإنفاق البريطاني السخيّ على حرب أوكرانيا، الذي بلغ 3 مليارات في مقابل 5 ملايين دولار لضحايا الزلزال.
الأرقام المادية، وفق العقل الغربي، تلخّص المنحى الواقعي لهذا الفكر، فقد أنفقت أميركا وأوروبا ومن دار في فلكهما، وخصوصاً قطر والسعودية، 137 مليار دولار في تسعير الحرب على سوريا، ولكن في إغاثة ضحايا الزلزال تعهّدت أميركا بإنفاق 85 مليون دولار، في مفارقة عجيبة تفضح حقيقة الحضارة الغربية المعاصرة وأدواتها السياسية.
جاء التحرك الأوروبي في نجدة تركيا بطيئاً بعد 4 أيام من الكارثة، وهو تحرك محدود لم يحدث فارقاً مع هول الكارثة، فيما ظلت أوروبا خاضعة لقانون "قيصر" الأميركي في حصار سوريا، رغم الكارثة، باستثناء إيطاليا التي حاولت المساعدة، وإن بشكل غير مباشر. ومن خلف أوروبا، اصطفّ كل القطيع العالمي خانعاً مع استثناءات قليلة.
اضطر الأميركي إلى تجميد بعض بنود قانون "قيصر" لمدة لا تتعدى 6 شهور بعد أسبوع من الكارثة، بما لا يحل أصل مشكلة الحصار الأميركي على سوريا، وإن خفف بعض جوانبها، وهو قانون لم يصدر عن مؤسسة دولية أو أممية، ولكنه الخضوع العالمي للأخطبوط العسكري والنفوذ السياسي والضغط الاقتصادي من جانب أميركا.
بين شماتة مجلّة "شارلي إيبدو" الفرنسية بضحايا الزلزال وصرخة صحيفة "تشاينا ديلي" الصينية ضد قانون "قيصر" المعيب والتذرع الأميركي بالدفاع عن الحريات لتبرير الإجرام، ثمة فارق أخلاقي ثقافي بين غرب متغطرس وشرق يتململ ليخط الطريق، والميدان هنا في حلب ومرعش، حيث تقف البشرية أمام مفرق طرق. وقد تجلى للعيان أنَّ الحديقة الأوروبية ليست لكلِّ ساكنيها، بل ولا حتى للخاضعين لشوك ورودها.
كارثة القرن في هذا الزلزال تعيد البشرية إلى المربع الأول، إلى ما هو صراع أفكار وثقافات. وقد ظهرت ملامح ذلك عند الاستقبال الأوروبي اللاجئين الأوكران وبكاء الإعلاميين الفاضح عليهم بسبب "عيونهم الزرق وبشرتهم الشقراء"، فهم ليسوا سوريين ولا أفغانيين! وبرزت أيضاً في مونديال قطر، حيث الخضوع السياسي لم يكن كافياً بحال لتجنب التعالي الغربي ضد قطر في إدارتها الناجحة للمونديال.
جاء هذا الزلزال، بما فيه من كارثة طبيعية مهولة، ربما ليبث رسائل عديدة، فإذا كانت تركيا؛ العضو في حلف الناتو، والشريك الدائم للسياسة الغربية مع "إسرائيل"، والبلد المنفتح اقتصادياً وأخلاقياً وفق القوانين الغربية، وشمال سوريا الذي انخرطت بعض تياراته في المشروع الغربي ضد الدولة السورية، لا يستحق أيّ منهما وقفة إنقاذ غربية في مواجهة تداعيات الزلزال بما يوافق شعارات الغرب التي حاول عبر مجاذيفها غزو العالم الإسلامي لتحويله إلى جزر دافئة تقيه من برد الشتاء، فكيف يمكننا تصوّر خروجه على عقوبات "قيصر" الوحشية ضد سوريا ومحورها المقاوم؟!