"أخبروا البحر بعد إعلان موتي، أنني لم أكن أشعر بالعطش ليرويني بمائه حتى الموت.. أنا فقط رجل أهلكه التعب ورسم خرائطه بوجهي على هيئة تجاعيد، عانيتُ طوال حياتي من الفقر، أعمل طوال اليوم براتب لا يزيد عن ثمن علبة سجائر؛ كي أجعل أطفالي يعيشون حياة سالمة كريمة كباقي أطفال العالم، فأردت أن أهاجر كما يهاجر جميع فقراء العالم، فتوجهت إليك لتخرجني من طريق الظلم والموت إلى طريق العدل والحياة، لكنك أنت أيضاً لم تشعر بمعاناتي، لقد فهمتني بشكل خاطئ، لم أكن أشعر بالعطش، أنا فقط كنت جائعاً".
كانت هذه رسالة محمود الأخيرة، كتبها بروحه قبل قلمه، كتبها بقهره وألمه، بقلبه الذي يعتصر حزناً وأسى، بحسرةٍ ولوعةٍ على ما وصل إليه حاله، بدموع تعجز معاجم اللغة كلها عن وصفها، وتُخفق الألسنُ عن شرحها، والجوارح عن التعبير عنها، كتبها بثمن لا أثمان قبله تُذكر، ولا بعده تُدْفَع، بعض الأثمان أغلى من أن تُدفع، لقد كتبها بحياته!
محمود بكر أبو طير، من مدينة خانيونس جنوبي قطاع غزة، أجبره واقع الفقر والحروب والحصار والبطالة الذي يعيشه أهالي القطاع، على السفر بحثاً عن حياة كريمة، بعدما انقطعت به سُّبُل العيش والحياة، وضاقت عليه الأرض بما رحبت، فمضى يمخر العباب بحثاً عن لقمة عيش كريمة.
في رحلة البحث عن هذه اللقمة، لا يجد الفلسطيني سبيلاً له سوى البحر.. البحر الذي يستقبله دون فيزا ولا جواز سفر، البحر الذي سيطوف به على ظهر سفينة صغيرة، دون أن يسأله عن دينه أو لونه أو عرقه أو انتمائه السياسي.
نعم لقد حمله البحر متحرراً من كل الاعتبارات، وأعطى أمره لأمواجه العاتية بالسماح بجريان السفينة لتمخر عبابه، ولكنه (البحر) في الحقيقة لم يكن يشعر بمعاناته، لم يفهم مقصده من الأساس، لم يعِ ما يريده، لقد أساء فهمه، وابتلعَ الأحلامَ في أحشائه، يلطم الموج سواحل أرهقها الظلم والقهر، فتبكي الصخور دموعاً تزيد من قسوته وصلابته.. صلابته في الحقد، في الظلم، في البغي، في الجور، نعم لقد تآمر البحر عليه فنزع روحه، وكان من الغادرين، ألا بُعداً لكل غدَّارٍ لئيم!.
رغم كل ذلك، لم تتوقف مراكب المهاجرين لحظة، لم تتوقف رغم خطورة ركوب الأمواج، رغم وحشية المهاجرين، لم تتوقف رغم غدر البحر!، فضلاً عن العيش في وطن أرهقه الانقسام والحصار والعدوان والبغي، وأصبح أبناؤه يؤثرون الموت في قوارب الهجرة على الموت قهراً وظلماً في وطنهم.
خرج أبو طير، وقبله الآلاف من قطاع غزة؛ أملاً في بدء الحياة الكريمة بأوروبا، فمنهم من وصل، ومنهم من لم يرقُب فيهم البحر إلَّاً ولا ذمةً؛ فنزع أرواحهم غرقى في مياهه، بينهم من أذاب الملح ملامحه، ومنهم من ابتلعت الأسماك جثته، ومنهم من لفظه البحر ليعود محمولاً على الأكتاف، لم يأبه البحر بصرخاتهم، ولم يكتوِ بآهاتهم، لم يكترث عندما بلغت قلوبهم الحناجر، لم يُغنِ صياحهم عنهم من الموت شيئاً، هنا يتجلى غدر البحر وغضبه، هنا يكتسب لذاعته وملوحته، يكتسبها من دموعنا، من صرخاتنا، من قهرنا، يكتسبها من نزع أرواحنا، القرب من البحر أشد غلاظة مما يظن محمود ومن سار على دربه من قبلُ ومن بعد، البحر هو بوابة الموت!
وأعلنت عائلة أبو طير، وفاة ابنها محمود بكر أبو طير، إثر غرق قارب يستقله مجموعة من المهاجرين غير الشرعيين في رحلة بحثهم عن لقمة العيش وحياة كريمة في قارة أوروبا؛ هرباً من الواقع المأساوي الذي يعيشه قطاع غزة.
وأبو طير هو الضحية الثانية بعد الشابة صابرين أبو جزر التي تم الإعلان أمس عن وفاتها في غرق المركب نفسه.
وكانت وزارة الخارجية والمغتربين، قالت أمس إن مركبا على متنه أكثر من 27 مهاجراً، تعرض للغرق قبالة السواحل اليونانية، لافتةً إلى أنه إنقاذ 24 منهم، 4 فلسطينيين، فيما تم انتشال جثتين.
وبالرغم من عدم توافر إحصائيات رسمية، فإن ظاهرة الهجرة من قطاع غزة تنامت بشكل كبير خلال الآونة الأخيرة.
وتشير الإحصائيات المحلية إلى أن ما يربوا على 40.000 شخص تركوا القطاع المحاصر، في وقت تجاوزت فيه نسبة البطالة أكثر من 60%، وأصبح أكثر من 80% من أهالي القطاع يعتاشون على المساعدات الإنسانية، وفقاً للجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني.