المفكر البارع، قوي الشكيمة، صلب المراس، قوي التأثير، وقّاف عند حدود الثوابت التي لا تقبل المساومة، هكذا عُرف عن الدكتور الشهيد إبراهيم المقادمة عضو المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية "حماس" وأحد أبرز قادة الحركة الذين جمعوا بين قيادة العمل السياسي والعسكري.
ويوافق اليوم الثامن من مارس الذكرى العشرين لاغتيال الدكتور إبراهيم المقادمة صاحب السيرة الزاخرة بالتضحيات الجسام في مجالات الدعوة والفكر والثقافة والمقاومة. وُصف المفكر المقادمة بأنه ظاهرة فريدة في العمل الإسلامي والجهادي، فكان يتمتع بفكر عميق وعلم غزير، وجمع في مسيرته إنجازات عظيمة في مجالات مختلفة أهمها السياسية والعسكرية، فبعد استشهاده اعتبر الدكتور عبد العزيز الرنتيسي أن العالم العربي فقد شخصية فذة ومن أكثر الشخصيات ثقافة في العالم العربي.
الميلاد والنشأة
وُلد المفكر إبراهيم أحمد المقادمة "أبو أحمد" عام 1950 في مخيم جباليا للاجئين الذي هاجرت إليه عائلته من بلدة بيت دراس المحتلة، ثم انتقل إلى العيش في مخيم البريج وسط قطاع غزة، وهو متزوج ولديه سبعة أبناء. تلقى تعليمه الأساسي في مدارس وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) في مخيم جباليا، وكان من الطلاب النابغين وواصل تعليمه حتى تفوق بدرجة الامتياز في الثانوية العامة، وفي عام 1971 تخرج من كلية طب الأسنان من جامعة القاهرة.
عمل طبيبًا للأسنان في مستشفى الشفاء بغزة، حتى فصلته السلطة الفلسطينية من عمله على خلفية انتمائه السياسي لحركة حماس وعمله العسكري، لينتقل بعدها إلى العمل في عيادة الأسنان الخاصة بالجامعة الإسلامية بغزة.
التربية والدعوة
نشأ المقادمة نشأةً إسلامية، فكان للشيخ المؤسس الإمام أحمد ياسين أثر عميق في نفس المفكر، وكان مندفعًا ومتعطشًا للعمل في الدعوة والجهاد، فالتحق بجماعة الإخوان المسلمين، وكان ذا سجية إسلامية، لذلك أسس نواة التربية على النهج الإسلامي داخل بيته وخارجه.
أحب القراءة، فكانت زادًا له في كل لحظة، ينهل من العلم ما استطاع، ليتنقل بين الكتب في مجالات الطب والفقه والعلوم الإنسانية، ويؤلف العديد من الكتب والدراسات خلال مكوثه داخل السجن وخارجه، كان من أبرزها كتاب "معالم في الطريق إلى تحرير فلسطين"، و"الصراع السكاني في فلسطين"، كما كانت له عدة دراسات في المجال الأمني.
العمل الجهادي
شكّل المقادمة برفقة عدد من قادة حماس النواة الأولى للجهاز العسكري الخاص بالإخوان المسلمين في قطاع غزة الذي كان يعرف باسم "مجد"، وتولى مهمة إمداد المقاتلين بالأسلحة. وفي عام 1984 اعتُقل للمرة الأولى بتهمة الحصول على أسلحة وإنشاء جهاز عسكري بغزة؛ حُكم على إثرها بالسجن لثماني سنوات، قضاها متنقلًا بين السجون الاحتلال المختلفة، ثم أُعيد اعتقاله مرة أخرى ليقضي ما مجموعه عشر سنوات في زنازين الاحتلال.
خلال اعتقاله في سجن النقب اختير أميرًا لكل أقسامه، فأضاف إلى حياة السجن الكثير، حيث أسس "جامعة يوسف"، ووضع لها برامجَ ثقافية متطورة، وشكّل لجانًا لتحضير المساقات، وبدأ ورفاقه بعقد المحاضرات في مواعيد رسمية.
يقول الدكتور المقادمة في لقاء مصور جرى تسجيله قبل استشهاده بشهور قليلة، إن السجن غدا مدرسة تربوية، ومحطة لعلها من أهم المحطات التربوية في تاريخ الحركة، التي أثرت بصورة إيجابية في نفوس شبابها. ويبيّن المقادمة أن جامعة يوسف التي أسسها داخل السجن خرّجت آلافاً من أبناء حركة حماس وقادتها، وعوّضت جانباً كبيراً من الفراغ الذي ينشأ داخل السجن، ليُحوّل السجن إلى منارة للفكر ومخرجةً للرجال.
وفي حين أخذ يشرح كيف أن تجربة إعداد الشباب داخل السجن ضمن برنامج مكثف أخذت طابعاً تجريبياً وحصدت نجاحاً محققاً، يشير إلى تلك التجربة أنضجت الرؤية حول ما أسماه بـ"الثورة الجديدة في التثقيف" التي بدأت في سجن النقب وعُممت في الخيام جميعها.
تعرضت حركة حماس في بداية التسعينيات لحملة اعتقالات طالت معظم القيادات والكوادر، تلاها الإبعاد إلى مرج الزهور، وخلال هذه الفترة، كان الدكتور المقادمة قد أنهى محكومياته في سجون الاحتلال، فتولى قيادة الجهاز العسكري لحركة حماس خلال فترة صعبة جدا، وقد شهدت الكتائب تحت قيادته تطورا نوعيا في العمليات البطولية.
في سجون السلطة
في عام 1996م، اعتقلت السلطة الفلسطينية الدكتور إبراهيم المقادمة بتهمة تأسيس جهاز عسكري سري لحركة المقاومة الإسلامية "حماس" في غزة، وأطلقت سراحه بعد ثلاث سنوات من الاعتقال، تعرض خلالها لشتى أنواع التعذيب، إلى أن وصل الأمر إلى أن يُضرب به المثل في شدة صبره على أساليب السلطة المبتكرة في التعذيب.
مع الإفراج عن الشيخ صلاح الشحادة من سجون الاحتلال أوكلت إليه إعادة بناء الجهاز العسكري لحركة حماس، فيما تفرغ الدكتور إبراهيم المقادمة إلى الجهود السياسية والدعوية، فكان يعطي المحاضرة تلو المحاضرة، وينظر لفكر المقاومة ويكتب الأشعار والكتب في سبيل قضية فلسطين.
استشهاده
في صباح الثامن من مارس عام 2003م، كان الدكتور المقادمة على موعد مع الشهادة ولقاء ربه، وبينما كان يستقل سيارته وسط مدينة غزة استهدفت طائرات الاحتلال الحربية الصهيونية بعدد من الصواريخ الحاقدة الإرهابية سيارة مدنية كانت تقل الدكتور المقادمة؛ ما أدى إلى استشهاده وثلاثة من مرافقيه هم عبد الرحمن العامودي، خالد جمعة، وعلاء شكري.
ظن الاحتلال وقادته المجرمون الملطخة أيديهم بدماء أبناء شعبنا، أنه باغتيال المقادمة يكون قد وجه ضربة قاصمة لحركة حماس وللعمل العسكري المقاوم، إلا أن دماء المقادمة وفكره وتضحيته غدت سراجًا تنير طريق الجهاد والمقاومة في فلسطين. ووفاءً من التلاميذ لقائدهم وتخليداً لذكر قائد قل نظيره، أعلنت كتائب القسام خلال معركة حجارة السجيل عام 2012 عن صاروخ "m75" محلي الصنع، نسبة إلى الدكتور إبراهيم المقادمة، وتضرب به "تل أبيب" لأول مرة في تاريخ الصراع مع الاحتلال.