منذ إصدار وعد بلفور المشؤوم عام ١٩١٧م وما يجري في فلسطين يتربع على صدارة الأحداث حيث أن ظلماً وقع على شعب يعيش آمناً مطمئناً على أرضه التي تمت سرقتها جهاراً نهاراً وتحرك حينها المارد الفلسطيني ولا يزال في حالة نضال مستمر من أجل استرداد حقوقه التي سُلبت ولم تستطع قوى الأرض بجبروتها وبطشها وانحيازها للاحتلال الغاصب أن تثنيه عن النضال والمقاومة، والكيان الصهيوني الذي استمد شرعيته وقوة وجوده أولاً من بريطانيا التى أنشأته وثانياً من أمريكا التي قامت بإمداده بكل أشكال الدعم المادي والسياسي، وتم اعتبار الكيان جزءاً لا يتجزأ من منظومة الولايات المتحدة الأمريكية الفيدرالية، بل إن التأثير اليهودي سيطر على قرارات الكونغرس بشقيه (مجلس النواب ومجلس الشيوخ ) وتشكل ما يُسمى " اللوبى اليهودي" والذى استطاعت دولة الكيان من خلاله أن تمارس ضغطاً متواصلاً على الإدارات الأمريكية المتعاقبة حتى تستمر في دعمها سياسياً ومادياً وعسكرياً بشكل لا متناهي، وبلا حدود مع أنه كان يحدث أحيانا خلاف فى وجهات النظر عندما تشعر الإدارة الامريكية بعدم قدرتها على التغطية على جرائم الاحتلال الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني أو كما حدث فى عهد الرئيس باراك أوباما عندما صدرت تصريحات حينها من نتنياهو بأنه لم يعد خيار حل الدولتين قائماً فيما تعتبر أمريكا نفسها راعية للسلام فى الشرق الأوسط وهو نفس ما يحدث فى عهد جو بايدن الآن خصوصاً بعد الانتخابات الصهيونية الأخيرة والتي أدت إلى صعود اليمين الصهيوني المتطرف والصهيونية الدينية بقيادة بن غفير وسموتيرتش وصعود الليكود كحزب يمينى أيضاً ومحاولة اليمين تنفيذ أجنداته التلمودية التوراتية في القدس والمسجد الأقصى والإفراط فى عمليات القتل والدمار والتوحش، وبالرغم من حالة الغضب التى انتابت سابقاً وتنتاب حالياً الإدارة الامريكية على نتنياهو وحكومته المتطرفة ومماطلة الرئيس بايدن فى استقباله إلا أن الدعم الأمريكي مستمر ، حتى الغرب الذي كان راعياً مع الولايات المتحدة لعملية السلام منذ أوسلو وبالرغم من شعورهم بعدم الرضا من سلوك الحكومة الصهيونية المتطرفة إلا أنّ الدعم الأمريكي والغربي لدولة الاحتلال لم يتوقف سياسياً ولا مادياً، ونحن كفلسطينيين لم نراهن يوماً على أي تغيير في سياسات أمريكا حول الصراع مع دولة الاحتلال وكذلك الغرب ولن يكونا لا أمريكا ولا الغرب يوماً طرفاً نزيهاً فى الصراع لأن زرع الكيان في قلب الأمة هو مشروع غربي لتكريس التجزئة والتغريب والتبعية للغرب وأمريكا وتغذية الصراعات والفتن بين مكونات الأمة. لكنْ، التغيّرات الدراماتيكية في العالم الجارية حالياً والتحول نحو تعدد القطبية والمراجعات التي تحركت في وعي بعض الأنظمة العربية التي استهوتها علاقات التطبيع مع دولة الاحتلال وما يحدث من تطور واستمرار عمل المقاومة في فلسطين وتدحرج المقاومة من وحدة الساحات داخل فلسطين إلى تعدد الجبهات خارج حدودها والوضع الداخلي الصهيوني وحالة التفكك المجتمعي والتصدعات السياسية والاختلافات الإثنية والعقائدية التي تضرب فى عمق الكيان الصهيوني، كل ذلك بدأ يوحي بأن المرحلة القادمة تحمل مفاجآت كثيرة لن تكون فى صالح الاحتلال الصهيوني.
ما بعد الحرب الروسية الأوكرانية وانحياز أمريكا ودعمها لنظام أوكرانيا، فيما الغرب وأوكرانيا يخوضون حرباً بالوكالة عن أمريكا في مواجهة روسيا ومن خلفها الصين، الغرب بدأ يتململ ويفكر في الضرر الذي أوقعه استمرار الحرب الروسية الاوكرانية على أوروبا أمنياً وعسكرياً وسياسياً واقتصادياً واجتماعياً وانهيار منظومة أوروبا القوية وانشغال الدول الأوروبية كلٌ بنفسها ومحاولة معالجة ما تسببه الحرب الروسية الأوكرانية من نزيف يومي لأوروبا بمجملها والتي لم تعد تتقدم العالم في الصناعة والتكنولوجيا والاقتصاد فيما لم تعد أمريكا هي الأولى بلا منافس عسكرياً في العالم أمام بروز الصين وروسيا وما يدور الحديث عنه أيضاً حول كوريا الشمالية وما تمتلكه من ترسانة عسكرية نووية وكذلك إيران التى أصبحت قوة إقليمية لا يُستهان بها وكأنك تنظر إلى محور يتنامى بشكل كبير عسكرياً وصناعياً واقتصادياً مما يشكل حالة تنافس لأمريكا والغرب ومع الوقت سيشعر الحليف الاستراتيجى لدولة الاحتلال والداعم الأساسى له بأنه لم يعد ضرورة كبيرة للاعتماد على دولة الاحتلال لتكون راعية لمصالح الغرب وأمريكا في منطقة الشرق الأوسط لأنهم أرادوها كياناً قوياً حامياً للمصالح الغربية لا كياناً مستقلاً تحركه الأيديولوجيا ولم يخطر على بالهم أن يصل الأمر بهذا الكيان ليكون دولة يهودية تنهي وجود باقي الطوائف على أرض فلسطين كما أرادها وعد بلفور بصريح العبارة "تنظر حكومة صاحب الجلالة بعين العطف إلى إقامة وطن قوميّ للشعب اليهوديّ في فلسطين، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يفهم جلياً أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في أي بلد آخر مع الحفاظ على حقوق باقى الطوائف في الوجود والعبادة "، وأصبح ما تمارسه دولة الاحتلال على أرض الواقع هو تكريس وجودها كدولة يهودية نقية على أرض فلسطين، وفقدت أمريكا ودول الغرب سيطرتها على ممارسات حكومة الاحتلال المتطرفة الجديدة التي جاءت نتاج مجتمع صهيوني يجنح نحو اليمين والتطرف.
كما أن هناك تراجعاً واضحاً لدى الأنظمة العربية التي مارست التطبيع مع الاحتلال بالاستمرار في التعاطي مع هذا التطبيع الذي مثّل خنجراً مسموماً في ظهر الشعب الفلسطيني ومقاومته ولا يستفيد منه إلا الاحتلال الصهيوني حيث ممارسات الحكومة الصهيونية الفاشية ضد أهلنا في الضفة الغربية والمجازر المتوالية وما يحدث من استفزاز لمشاعر الفلسطينيين والمسلمين باقتحامات مستمرة للمسجد الاقصى وإقامة شعائر وطقوس تلمودية وفرض وقائع يهودية فيه والاعتداء على المصلين، جعل حكومات التطبيع غير مقنعة لشعوبها من أن التطبيع لصالح القضية الفلسطينية التي تهم كل عربي ومسلم، رأينا تلك المماطلة فى استقبال نتنياهو مؤخراً من الإمارات كما أن السعودية غضت الطرف عن علاقات مع الاحتلال والحديث عن التطبيع أصبح باهتاً ليس له حضور ، أيضاً توجه السعودية نحو علاقات استراتيجية مع الصين، وعلاقات خليجية مع روسيا، وعودة العلاقات بين السعودية وإيران، وتوسيع شبكة العلاقات بين بعض دول الخليج وإيران، جعل الدول العربية غير حريصة على نيل رضا أمريكا الذي كان سبباً في أن بعض الأنظمة العربية في عهد ترامب زحفت للتطبيع مع دولة الاحتلال وكذلك إعادة العلاقات مع ايران التى لم تعد البعبع الذى تخيف به امريكا أنظمة الخليج والسعودية.
وأما الذي يشكل مصدر قلق حقيقي للاحتلال هي المقاومة الفلسطينية التى لم يستطع الاحتلال بالقتل والاعتقالات المستمرة وتدمير المنازل واستباحة الاحتلال لمعظم أرض الضفة ومحافظاتها والترويع، أن يوقف حالة المقاومة التي تتبع لفصائل منظمة وأجنحة عسكرية لها وزنها مثل (كتيبة جنين التابعة لسرايا القدس المنتشرة فى كل محافظات الضفة الغربية، وتفرعت منها كتائب تأخذ اسم المنطقة التي تعمل فيها، وكتيبة عرين الأسود، وهى تجمّع من كافة الأجنحة العسكرية لجميع التنظيمات المقاومة وعلى رأسها حماس وكتائب شهداء الأقصى التابعة لفتح) أو الشباب الثائر (الذئاب المنفردة) كما يُطلق عليهم قادة وإعلاميو الاحتلال بل (الأسود المنفردة ) وهو اللقب الحقيقى الذي يطلقه الشعب الفلسطينى على هؤلاء الأبطال، غير المرتبطين تنظيمياً، ولكنهم يحملون وعي وثقافة المقاومة ولقد أوجعوا الاحتلال بعمليات بطولية فذة مثل رعد خازم وضياء حمارشة وعدي التميمي وإبراهيم النابلسي وخيرى علقم وغيرهم الكثير الذين ضربوا المنظومة الأمنية والعسكرية للاحتلال وأيضاً أصبح هناك ما يسمى حالة مقاومة تعشش في الوعي الجماهيري الفلسطيني ويحتضن المقاومة التنظيمية وغير التنظيمية ويراكم عليها وأصبحت أرض فلسطين في كل نواحيها مقاومة للاحتلال كما في غزة وأصابعها على زناد الصواريخ وأراضى ال٤٨ حيث التحدى والصمود والضفة المشتعلة وفي حالة اشتباك مستمر مع الاحتلال الصهيوني جنوداً ومستوطنين ، فيما المقاومة تتطور أكثر وأكثر ويشتد عودها وتتصاعد فإن الخطاب المهزوم الأخير لرئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو بعد جلسة "الكرياه" يعطيك الصورة الحقيقية للحالة التي يعيشها الاحتلال والمجتمع الصهيوني الذي لم يعد يحتمل ضربات المقاومة فكيف إذا تجاوزت المقاومة حدود فلسطين إلى ما حول فلسطين، فالاحتلال هو المحاصَر اليوم من مقاومات عدة في فلسطين وخارجها وكل الأمنيات التي أطلقها قادة الاحتلال مؤخراً بأنهم يبذلوا قصارى جهدهم لإطالة عمر "دولة إسرائيل" إلى الثمانين عاماً لن تحدث، وهذا ما يجعلنا نؤكد أن الزمن الصهيوني بدأ يغادر المعمورة كما أن زواله حتمية قرآنية.