تراقب "أم محمد" الابتسامة التي ارتسمت على وجه فراشتها الصغيرة (ميار) وفلذة كبدها (علي)، بعد أن وصلا المنزل للتو، فقد طار الصغيران بملابس المدرسة فرحًا في حضن والدتهما؛ ليتسابقا في إبلاغها بالخبر المفرح، فقالا بلسان واحد: "يا أمي المدرسة ستنظم رحلة ترفيهية وبدنا نفرح كأطفال العالم"، فرحت المسكينة أم محمد، وطبعت قبلة على جبين طفليها ولسان حالها يقول: "سأشتري لكما كل ما تحتاجانه".
مشهدٌ لا يمكن أن يُمحى من ذاكرة أم محمد، زوجة الشهيد القائد الكبير في سرايا القدس الذراع العسكري لحركة الجهاد الإسلامي طارق عز الدين، الذي اغتالته طائرات الاحتلال الإسرائيلي فجر يوم الثلاثاء (9-5-2023) مع طفليه ميار وعلي.
بعد نحو 20 ساعة من استشهاد زوجها وطفليها؛ تمكن مراسل "شمس نيوز" من الحديث مع أم محمد؛ لتوضح تفاصيل الساعات الأخيرة قبل وقوع جريمة الاحتلال باغتيال زوجها وطفليها، لتبدأ بالحديث عن استعداد طفليها للذهاب إلى الرحلة الترفيهية في المدرسة.
قبل يومين من جريمة الاحتلال ذهبت (ميار) و(علي) لشراء حاجيات الرحلة الترفيهية، فكانت الفرحة تزغرد في قلب أم محمد بعدما شاهدت الابتسامة تعلو شفتي طفليها، فأراد علي شراء البسكويت والعصير أما ميار فأشارت إلى الشيبس والمكسرات كغيرها من رفيقاتها.
حبست أم محمد أنفاسها، وبدأت دمعاتها تجري كالنهر الجارف على وجنتيها، فبكت القلوب والعيون لهذا المشهد المؤلم، وبعد دقائق حاولت أم محمد أن تكمل حديثها فتقول بصوت متقطع: "بعد شراء الحاجيات عادت ميار وعلي إلى المنزل، وبدأنا ننتظر اليوم الموعود للرحلة الترفيهية؛ لكن العدو اغتال براءتهم وفرحة طفولتهم الصغيرة".
فجأة عمَّ الصمت المكان، فكانت الثواني التي تمر مرعبة، دمعاتها الغالية لا تتوقف من الهطول التي تبلل وجنتيها التي تشتد سخونتها كلما زادت انهمرت الدموع، أما جسدها كان يرتعش مما جرى أمام عينيها، وصوتها بدأ يفقد قوته؛ لكنها فاجأت الجميع باستعادة شريط ذكرياتها قبل ساعات من عملية الاغتيال الجبانة لزوجها وطفليها.
حاولت أم محمد أن تمسح دمعاتها التي تشتعل نارا ولهبًا لتقول: "لقد ودعني علي قبل استشهاده بساعات، كان يسألني لأول مرة عن أشياء تتعلق بالشهيد، فيسألني هل الدود يأكل جسد الشهيد؟"، صُدمت الأم من استفسارات طفلها؛ لتجيبه بكل هدوء جسد الشهيد يبقى كما هو، ورائحة المسك تفوح من جسده الطاهر".
لم تكن تعتاد أم محمد على أسئلة طفلها علي، فتعجبت من أسئلته، وبدأ قلبها يرتجف؛ إذ قالت لمراسلنا: "بعد أسئلة علي شعرت بالخوف وباقتراب استشهاد الطفل علي"، وفي تلك الليلة كان علي قريبًا من حضن والده؛ فهو المدلل وحبيب الروح.
أما فراشة المنزل الطفلة "ميار" فقصتها قصة، وفراقها خطف قلب والدتها، وجعل القلب يحترق من الألم إذ تقول: "ميار بنت أمورة روحها حلوة، كانت سندي ومطيعة جدًا كانت تحبني وتحب والدها، فهي دلوعة البابا"، حاولت أم محمد أن تكمل حديثها عن يدها اليمين في البيت؛ إلا أن حشرجة صوتها توقفت، لتضع يدها على عينيها باكية في مشهد بكت فيه كل العيون التي تحيط بها.
كيف نجت أم محمد عز الدين من جريمة الاغتيال لزوجها وأطفالها؟
في تلك الليلة قدر الله تعالى بأن تشعر أم محمد بالتعب الشديد، فنامت مع طفلها الرضيع عز الدين في الغرفة المجاورة التي نام فيها زوجها طارق وطفليها ميار وعلي، وسرعان ما انقلبت الأحوال فلم تجد أم محمد حجرًا على حجر في منزلها.
الكهرباء قُطعت والدنيا أظلمت، تنادي أم محمد بأعلى صوتها "يا طارق، يا محمد يا ميار يا علي"، دون إجابة في تلك اللحظة المرعبة التي عاشتها أم محمد..إلى أن وصل الجيران وأنقذوها ومن معها من الدمار الكبير.
دموعها تنهمر بحرارة وألم شديدين، وتركت أم محمد لسانها يتساءل: "ما ذنب أطفالي؟ أين الرحمة والإنسانية؟ أين حقوق الإنسان وحقوق الطفل؟، أين المؤسسات الدولية والإنسانية؟ لماذا لا نسمع صوتهم؟"، أسئلة كثيرة طرحتها أم محمد؛ لكن الإجابة واضحة؛ فإذا كان الأمر يتعلق بمظلومية الفلسطينيين أدارت تلك المؤسسات والمنظمات ظهرها، أما إذا تعلق بمستوطن شعر بالهلع تقوم الدنيا ولا تقعد!.