الأرض تنجب العلماء، كما تنجب الشهداء، فكانت مدينة بيت لحم تقدَّم لفلسطين عقلاً فذاً، في أحد أيام العام 1960م، فكان ميلاد الدكتور سميح طه حمودة، في عائلة عريقة تعود أصولها إلى قرية لفتا بالقدس المحتلة.
استقر مقام العائلة في مدينة رام الله بعد عودتهم من الأردن، ودرس في مدارسها، وكان متفوقاً جداً في دراسته، ما أهله لدراسة "العلوم السياسية والدراسات شرق أوسطية" في جامعة بيرزيت عام 1978م.
سعى لنيل درجة الماجستير، وحصل على القبول في جامعة جنوب فلوريدا بأمريكا، عام 1992، وفي نفس العام عمل على تأسيس مكتبة دار الفكر في مدينة رام الله.
أنجز العديد من الكتب والأبحاث والمقالات الشاهدة على اهتمامه وحركية وعيه السياسي، وعمل محاضراً في قسم العلوم السياسية في جامعة بيرزيت حتى وفاته.
الجيل الجهادي المؤسس:
كان من الذين أسهموا في تعميق الوعي والمقاومة والقيم الوطنية، ومن الجيل الأول المؤسس لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين مع الشهيد الدكتور فتحي الشقاقي الذي تعرَّف عليه في مدينة القدس، مجلة النور في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، وتأثر بأحاديثه عن الشيخ القسام، وكان لكتابه "الوعي والثورة"، والصادر عام 1985م، الفضل في توطين هذا التعلق بالشيخ القسَّام.
شكَّل الدكتور حمودة والدكتور الشقاقي، ثنائية الوعي المعرفي بالشيخ القسام، والذي أعطى للقضية الفلسطينية بُعداً إسلامياً عبر تأصيل مركزيتها، وتكوين المشكاة التي مهَّدت للانتفاضة عام 1987.
المسيرة الأكاديمية:
عمل في جمعية الدراسات العربية بالقدس (1985 - 1992)، ومركز دراسات الإسلام والعالم في فلوريدا (1993 - 1995)، وشغل منصب مدير تحرير دورية "حوليات القدس"، الصادرة عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية في رام الله، قبل توقفها في أغسطس 2015م.
أصدر العديد من الأبحاث المهمة والكتب التي أفادت الباحثين والمهتمين من كتابه الأول حول الشيخ عز الدين القسام، مروراً بأوراق داود الحسيني وصولاً إلى رام الله العثمانية، إضافةً لنشره مئات الأوراق الارشيفية وتحريره للعديد من الكتب والدوريات التي أغنت وأضافت الكثير لحقل الدراسات الفلسطينية.
أشرف على تأسيس أرشيف بلدية رام الله، كما شارك في تأسيس وتنظيم الأرشيف الرسمي لمؤسسة الدراسات الفلسطينية وجامعة بيرزيت.
شارك في أنشطة الجالية الفلسطينية في أمريكا ومؤتمراتها الطلابية، التي كانت ترعاها لجنة فلسطين الإسلامية، ورابطة الشباب المسلم العربي، وفعاليات المعهد العالمي للفكر الإسلامي، والاتحاد الإسلامي لفلسطين.
عمل أستاذاً العلوم السياسية في جامعة بيرزيت بعد عودته إلى أرض الوطن عام 2006م، حتى وفاته.
محنة الاعتقال في أمريكا:
تعرض لسنوات المحنة والاعتقال قرابة أربع سنوات على يد السلطات الأمريكية، بعد أحداث 11 سبتمبر 2001م، حيث كان يعمل إلى جانب الدكتور الأكاديمي سامي العريان، وكان مطلوباً من الدكتور حمودة الإدلاء بشهادة في المحكمة تدين العريان، والأنشطة التعليمية والخيرية التي كان يرعاها، إلا أن الرجل آثر السجن ورفض مجاراة مكتب التحقيقات الفيدرالي في ادعاءاته وأباطيله بحق صديقه.
رغم ملايين الدولارات التي أنفقت لشيطنته، وربط قضيته بما يجري على أرض فلسطين من أعمال جهادية، حكمت المحكمة ببراءته من كل ما نسب إليه من اتهامات بشرط التنازل عن حقوقه والرحيل عن أمريكا.
يمضي الرجل ويبقى الأثر:
استطاع التوجه للأردن بعد رفضه عدة مرات من قبل الاحتلال، حيث أجرى عدة فحوصات وتبين إصابته بمرض السرطان، وخضع لجلسات علاج، ورغم الألم الذي كان يعانيه إلا أنه كان يصر على متابعة طلابه وتدريسهم، ومواصلة كتاباته وأبحاثه وهو على سرير المرض.
وفي شهره الأخير عاد إلى الجامعة لتدريس طلابه، ثم اشتد به المرض، وتم نقله إلى المستشفى الاستشاري، حتى توفاه الله في 25-5-2019م، ليلتحق بركب الشهداء الذين سبقوه على خطى الأنبياء والصالحين.
ونعت حركة الجهاد الإسلامي المفكر والأكاديمي الدكتور سميح حمودة، وقالت الحركة في بيان لها: "إن الدكتور حمودة كان واحداً من أولئك الذين أسهموا في تعميق الوعي بالمقاومة والقيم الوطنية، وهو واحد من الجيل الأول في حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، وقد تعرض للملاحقة والاعتقال في السجون الأمريكية الظالمة بسبب مواقفه الوطنية ودعمه للمقاومة في فلسطين".
قالوا عن الفقيد:
أشاد الكثير بخصال الدكتور حمودة العلمية والتعليمية وسيرته الحياتية.
يقول الدكتور سامي العريان في كلمة التعزية بوفاته: "كان أخي وصديقي وخليلي في السجن لسنوات ثلاث ومعاً في زنزانة واحدة لأكثر من 20 شهراً، صلينا معاً جماعة أكثر من 17 ألف ركعة، كان الدكتور حمودة قوي الإيمان، تقياً، ورعاً، رابط الجأش، هادئاً وواسع الاطلاع، إنه موسوعة تاريخية، وعقلية نقدية ملتزمة بآداب النقاش، محب وشغوف للمعرفة، خلوق، شجاع، كريم، وعاشق لفلسطين".
وقال الروائي الفلسطيني وليد الهودلي في مقاله "سميح حمودة أسد الثقافة الفلسطينية" قائلاً: "لم يكن يوماً يعالج من منطلق طائفي أو عاطفي، وكان يشخّص بدقّة وعُمق ويطرح العلاج الذي يرى أنه يتطابق مع مصالح شعبه وأمّته، كان في ذلك وطنياً بامتياز، إذ حسابات الوطن تعلو عنده فوق كل شيء، وكان يمثل في علاجاته المفكر صاحب الرؤية الحضارية، يدرس التاريخ ويفهم الواقع ويقرأ المستقبل، ويدفع بالاتجاه الذي يشكّل قارب النجاة وشاطئ الأمان لشعبه وأمّته".
كما ودعه الشيخ الشهيد خضر عدنان بقوله: "تبكيك القلوب التي تفضلت بعلمك عليها، تبكيك المنابر التي ارتقيتها وصدحت فيها بحقنا الأصيل بفلسطين، تبكيك بيرزيت وزواياها وطلبتها وحاضريها، ويبكيك كل من عرف دماثة خلقك ورقة وعذوبة طرحك وحديثك".
يمضي الرجال يا أبا محمد ويبقى النهج والأثر