أصوات التهليل والتكبير تعلو في المكان.. فتياتٌ يتجمعنَّ في لحظات الوداع الأخير.. يبكين بحرقة.. يمسحنَّ الدموع عن وَجَناتِهِنَّ، وهنَّ يحملنَّ على أكتافهنَّ زميلتهنَّ التي خطف الرصاص روحها.. إنه مشهد "سيريالي" مألوف في فلسطين.. هناك حيث جنين بدأت القصة، عندما اقتحمت قوات الاحتلال المخيم بعشرات الآليات العسكرية.
صورة الطالبات وهنَّ يحملنَّ جثمان زميلتهنَّ الشهيدة سديل نغنغية (15 عامًا) يبكي الحجر، ويمزق القلب حزناً وكداً على هذا المشهد، الذي يدلل على حجم الجريمة التي ارتكبها جنود الاحتلال الإسرائيلي بحق الأطفال الأبرياء في جنين، إذ تمر الثواني ثقيلة على الطالبات، إحداهن تسير خلف الموكب؛ لتُزيل العرق الذي اختلط بالدموع من وجنتيها، ولسانها يردد: "هينا نفذنا الوصية يا سديل".
في منزل والد الطالبة سديل نغنغية مقابل مسجد الشهيد محمود طوالبة في حي الزهرة بمخيم جنين، بدأت القصة مبكرًا يوم الاثنين 19 يونيو 2023، فما إن انطلقت صافرات الإنذار لتعلن عن تسلل قوات خاصة حتى عمَّ التوتر داخل منزلها؛ أسرع غسان نغنغية ليتفقد أطفاله، وينادي عليهم واحدًا واحدًا، "ابتعدوا عن النوافذ القناصة مقابل المنازل".
بحكم جغرافيا منزل غسان نغنغية في حي الزهرة، فإنه أكثر المنازل معرضة لخطر القناص الإسرائيلي؛ إذ يحيط بالمنزل العديد من المباني المرتفعة التي يعتليها جنود الاحتلال فور أي اقتحام للمخيم. يقول غسان لـ"شمس نيوز": "منزلي يقابله العديد من المباني المرتفعة؛ لذلك الخطر يتهدد حياة أطفالي كلما اقتحمت قوات الاحتلال مخيم جنين، فأدفع بأطفالي لعدم الوقوف على المنافذ مطلقًا".
أغلق غسان منافذ المنازل وأبعد أطفاله إلى مكان آمن؛ لكن القدر دفع طفلته سديل بأنْ تطلب من والدها الانتقال إلى منزل عمَّها مقابل البيت، فوافق والدها، حيث قال: "منزل عمها أكثر أمناً من منزلي لذلك وافقت على طلبها".
نزلت الفتاة سديل بكل فرح وسرور، وبدأت خطواتها باتجاه منزل عمَّها، وعندما وصلت إلى فناء منزلها سقطت على الأرض، في هذه اللحظة تحديدًا كان والدها قد ابتعد ثواني عن النافذة؛ لكن محمد (12 عامًا) فاجأ والده، عندما صرخ بأعلى صوته: "بابا بابا..سديل وقعت على الأرض".
تجمدت حركة غسان لثوانٍ معدودة قبل أن يستعيد توازنه فيخفف المشهد عن طفله فيقول: "يبدو أن سديل وقعت على الأرض كعادتها تعرقلت أثناء السير"؛ ليجيب الطفل والده: "يا بابا سديل لم تتحرك"، في هذه اللحظة استدرك والده الخطر فانطلق مسرعًا إلى فناء منزله.. هناك كانت الصدمة.
وصل غسان إلى طفلته الصغيرة وهي غارقة في بحر من الدماء، جلس على ركبتيه وبدأت يداه المرتجفة تغوصان بالدماء، أدار طفلته على ظهرها ليجد رصاصة قد اخترقت رأسها من بين حاجبيها، ليتهشم رأسها الصغير على الأرض؛ وتبدأ في نزف الروح البريئة.
لحظات مؤلمة لا يمكن أن يتخيلها العقل، كانت مجرد فكرة؛ لكنها الآن واقعًا يعيشه غسان وطفلته التي فقدت روحها، لم يكن أمام والدها إلا أن يستلقي على الأرض خشية من إصابته برصاص القناص، في محاولة منه ليسحب طفلته الصغيرة وينقلها إلى المستشفى.
صراخ غسان وبكاؤه الشديد على ابنته سديل وصل صداه إلى سائق كان يمر صدفة بالقرب من المنزل، يقول غسان للسائق: "انقل الطفلة للمستشفى؛ لن أستطيع الذهاب معك"، كان لقرار غسان بالعودة إلى المنزل حكمة كبيرة لحماية أطفاله الصغار، إذ أشار لمراسل "شمس نيوز" إلى أن ذهابه مع طفلته للمستشفى سيدفع أطفاله باللحاق به في هذا الوقت الصعب والحرج؛ ما قد يعرضهم لخطر القناص القاتل.
كانت سيدل قد نُقلت بسيارة مدنية إلى المستشفى بوضع صحي خطير، "لا تتحرك، ولا تتنفس"، فأدخلها الأطباء مباشرة إلى العناية المكثفة، كان الوالدان يتبادلان الدعاء بالرحمة والشفاء لسديل، وفي تمام الساعة الواحدة والنصف فجر اليوم طلب غسان من زوجته العودة إلى المنزل إذ قال: "كانت تشعر بالتعب الشديد ووضعها صعب جدًا".
وعندما وصلت عقارب الساعة إلى السادسة صباح اليوم الأربعاء، أعلن الأطباء استشهاد الفتاة سديل نغنغية، لتعم حالة من الحزن والألم في مخيم جنين شمال الضفة المحتلة.
لم تنتهِ قصة سديل إلى هنا فقط؛ فمشهد موكب الطالبات لزميلتهن المحبوبة له حكاية خاصة، يقول والدها: "تفاجأت اليوم بعد استشهاد سديل بوصول طالبات المدرسة وهن يرتدين الزي الرسمي، ويحملن معهن الزي الخاص بسديل، ويصدحن بالتهليل والتكبير".
وعندما وصلت الطالبات إلى والد سديل وسط الزحام الشديد قلن له: "لقد أوصتنا سديل بأن نحملها على الأكتاف ونحن نرتدي زي المدرسة، حتى نصل إلى المقبرة".
في هذه اللحظة استعاد والدها غسان شريط ذكريات طفلته الصغيرة فيقول: "الأوضاع في جنين تدفع الجميع لحمل فكرة المقاومة والفداء والتضحية، والبيئة المحيطة بسديل لا تتوقف بالحديث عن الشهداء والدفاع عن المخيم وأبطاله وذكريات الانتفاضة".
وأكثر ما أثرَ بشخصية سديل المحبوبة هو عائلتها التي استشهد منها بطلين في مخيم جنين عامي (2002 – 2005) وأسر والدها وأعمامها سنوات عدة في سجون الاحتلال، ليؤكد والدها أن جرائم الاحتلال الإسرائيلي بحق أبناء شعبنا الفلسطيني في مخيم جنين أو أي بقعة في فلسطين تكون سببًا في تكوين حالة الكراهية للمحتل والدفاع المستمر عن المخيم.