جرَّ جيش الاحتلال الإسرائيلي، في ساعات متأخّرة من ليل أمس، أذيال الهزيمة من مدينة جنين شمال الضفة الغربية المحتلّة، وذلك بعد مقاومةٍ وتصدٍّ شديدَين أظهرتهما المقاومة الفلسطينية وبالأخص سرايا القدس التي خاضت كتائبها قتالاً ضارياً على مدار يومَين من العدوان.
واستخدم مقاتلو سرايا القدس تكتيكات حربية شهيرة مثل (حرب الشوارع)، وحرب المُدن، وهي تكتيكاتٍ تشابه التكتيكات التي استخدمها مقاتلو الثورة الفيتنامية وتحديداً التكتيكات المستخدمة في منطقة "كوتشي" في سياق مقاومتهم للاحتلال الفرنسي ثم الأمريكي.
تكتيك حرب الشوارع (العصابات) الذي اتبعها مقاتلو سرايا القدس في جنين تمثل في نصب الكمائن، واقتياد الجيش المعادي (الصيد) إلى الشِراك، وتقوم فكرة حرب العصابات على التجانس الكبير بين المقاتل والتضاريس، وتسخير تضاريس المكان من شوارع وابنية لمواجهة الجنود والأسلحة والآليات، والاحتماء من الغازات والقنابل الدخانية.
حرب شوارع.. كرٌ وفر!
الخبير العسكري والاستراتيجي واصف عريقات يرى أنَّ مقاتلي جنين استخدموا تكتيكات عسكرية وقتالية ناجحة أرهقت العدو، وأدت إلى دفع العدو نحو الهروب السريع من المعركة التي تواصلت ليومين متتاليين فقط، دون أنْ يحقق العدو أيٍ من أهدافه التي أعلن عنها.
وأوضح عريقات في حديث لـ"شمس نيوز" أنَّ مقاتلي جنين تمكنوا من إدارة المعركة عبر تكتيكات (حرب الشوارع)، إذ قادوا العدو نحو (كمائن الموت)، وضربوا مدرعاته، وفجروا آلياته، في ظل روح قتالية عالية، وهو ما استنزف الجنود الإسرائيليين، وجعلهم يهربون سريعاً من حيث أتوا.
وأضاف "الكمائن التي اعدها المقاومون في جنين أجبرت جنود الاحتلال على الاستغاثة، وسمعنا جميعاً أصواتهم عبر الفيديوهات المصورة وهم يصرخون، ما يؤكد الخسائر الكبيرة التي مُني بها العدو، وهذه الإستراتيجيات نابعة من قدرة المقاومين على التخطيط لها في ظل العدوان".
وأوضح أن المقاومين أعدوا خططاً سريعة وميدانية تحت الضغط وتكلل لهذه الخطط النجاح، إذ تعد من أرقى أنواع التكتيكات العسكرية، والتي أدت لصد العدوان وإيقاع الخسائر في العدو، وضرب الروح المعنوية لدى جيش الاحتلال.
وبين الخبير العسكري أن المقاومين الفلسطينيين يستخدمون مبادئ (حرب العصابات) ومبادئ حرب التحرير الشعبية، واستخدموا الخدعة والمكر في استدراج العدو، بمعنى أنهم لم يواجهوا العدو وهو في ذروة قوته، بل يختارون الوقت المناسب -عند ضعف إمكانيات العدو وإرهاقه- للمباغتة والإجهاز، وذلك ليوقعوا أكبر قدر من الخسائر المادية والمعنوية في قوات العدو.
وأشار إلى أن المقاومين في أولى لحظات الاقتحام انتشروا خارج المخيم واتخذوا مواضع ومواقع قتالية وشكلوا كمائن فيها لرصد الأهداف ومهاجمتها عندما تحين الفرصة، لاستنزاف العدو، وتعد من أنجح التكتيكات في الميدان والتي أثمرت بنتائج إيجابية، وهي قتل جندي من وحدة النخبة "إيغوز".
وذكر أن المقاومة نجحت بتكتيكاتها رغم إمكانيات الاحتلال التي يهاجم فيها بكل مرة بخطط ووحدات وآليات جديدة، ولا نستغرب أن هذا العدوان استغرق سنة للتخطيط له، واجتماعات استمرت 10 أيام قبل بدء العدوان على جنين، والتي استطاع المجاهدون في دقائق معدودة وخطط سريعة ميدانية أن يواجهوا آلة الدمار والقتل الإسرائيلية.
استخدام أمثل للأرض
وأرجع عريقات نجاح المقاومة في صد العدوان للخبرة الميدانية التي حصل عليها المقاومين من المعارك السابقة، لافتاً إلى أن الشعب الفلسطيني يمتلك عقولاً وأدمغة لا يستهان بها، إذ تعد هذه المعركة معركة إرادة وشجاعة، رغم ميزان القوى الراجح لإسرائيل، ورأينا بالأمس كيف خرج هذا العدو منهزما أمام بسالة المقاومة.
وتابع: "استخدم المقاومون الحفر والمتاريس والأنفاق للتحصينات، وعملوا على استغلال الطبوغرافيا بشكل أمثل، وهذا جزء من الإمكانيات المتواضعة التي استثمرها المقاومون وحولوها لسلاح ناجع بيدهم، وبرعوا في هذا المجال ما أدى لعدم قدرة الاحتلال على تنفيذ أهدافه من العدوان".
أداء أمني مميز
وأشاد عريقات بالتدابير الأمنية التي اتخذها المقاتلون في جنين، لاسيما أنَّ العدو لم يستطع ان يثخن فيهم، أو انْ يعتقل قادة منهم، أو أن يتعرف على مخازن أسلحتهم، أو اختراق خططهم، وإنما امتازوا بالسرية والكتمان، واتباع تدابير امنية ذكية.
في السياق، أشاد مختصون في مركز الفارس للتحصين الأمني بأداء مقاومة كتيبة جنين، حيث تميزت هذه الحالة الثورية الصامدة بتطور السلوك الأمني والحس الأمني العالي. وتجلى ذلك من خلال العديد من الإنجازات التي حققتها الكتيبة في مواجهة العدو الذي يسعى للتغلغل في مناطقها، حيث تمكنت من تحقيق تقدم لافت في السلوك الأمني والتصدي للتهديدات العدو.
وتمتاز كتيبة جنين -وفق المختصون- بتقنيات التصنيع والتمويه المبتكرة، حيث نجحت في مفاجأة العدو بزراعة العبوات الناسفة وتنفيذ كمائن استراتيجية. وتكمن قوتها في قدرتها على التنقل والقتال بعيدًا عن استخدام الجوالات ووسائل الاتصالات التقليدية، مما يجعلها صعبة التعقب والكشف عن مواقعها.
وفي إنجاز آخر، نجحت كتيبة جنين في تحييد سلاح المسيرات وطائرات الاستطلاع التي يستخدمها العدو، بفضل الإجراءات الأمنية المحكمة التي اتخذتها. ومن خلال تبني استراتيجية الكر والفر على الأرض، استنزفت الكتيبة العدو وأفشلت محاولاته للتوغل وتحقيق أهدافه، وفقاً للمختصين.
وتابع المختصون، إن الأداء المميز الذي قدمته كتيبة جنين يعكس تفاني وتضحية الأفراد والتدريب العالي الذي تلقوه”، مع توقعات بأنْ يستمر تأثير هذا الأداء الاستثنائي في تحقيق المزيد من الانتصارات في المستقبل.
ويعتبر أداء كتيبة جنين مثالًا للقوة والمرونة التكتيكية للقوات الثورية، وتجسد التحدي الشجاع للقوات المعادية. إن إرادة الكتيبة وتفانيها في الدفاع عن أرضها يثبتان أن القوى الثورية لا تزال قادرة على تحقيق الانتصار في وجه القوى العسكرية العدوة، وفق للمختصين.
وما سبق من معطيات تؤكد تفوق كتيبة جنين في تنفيذ استراتيجيات أمنية مبتكرة وتكتيكات فعالة للمقاومة، وتبرز تمكنها من مواجهة وإحباط التهديدات العسكرية التي تواجهها.
وكانت قوات الاحتلال الإسرائيلي قد شنت عدوانا واسعا على مدينة جنين ومخيمها استمر على مدار يومين، وأسفر عن استشهاد 12 مواطنا بينهم خمسة أطفال وأكثر من 140 مصابا، بينهم 30 بجروح خطيرة، إضافة إلى تدمير البنى التحتية في المخيم وإلحاق أضرار جسيمة بمنازل المواطنين وممتلكاتهم.