اتسعت حدقات عينيه، وبدت الدمعة تتشكل داخل حافة جفنيه، والابتسامة العريضة ترتسم على وجنتيه، كانت لحظات ممتعة جدًا مليئة بـ"الإثارة والفكاهة والمزاح"، ساعات عدة قضاها الشاب سامح حنون مع ابن عمه أوس يتبادلون أطراف الحديث الذي لم يخلو من الوصية المؤثرة، قبل أن يتلقَ سميح الصدمة الكبرى.
لم يدرك سامح بأن لقاءه بابن عمه سيكون اللقاء الأخير في حياته، إذ اختطفت شظايا طائرات الاحتلال الإسرائيلي أوس من قلب مخيم جنين فجر الاثنين الموافق (3 يوليو 2023)، والمفاجأة الصادمة أن وصية أوس تحققت بحذافيرها دون إدراك.
هنا استعاد سامح بعضًا من كلمات وصية أوس والتي لن تُمحى من ذاكرته كما يوضح لـ"شمس نيوز": "في حال أُصبت أو اُستشهدت، أوصيك يا سميح بسحب جثتي من أرض المعركة ونقلها للمستشفى"، كلمات لم يعطِ سميح لها بالًا ولم يهتم بها كثيرًا فهي خرجت في أكثر اللحظات فرحًا وابتسامة.
أوس هاني حنون (20 عامًا) من مواليد مخيم جنين شمال الضفة المحتلة، عاش على قصص البطولة والكرامة لشهداء المخيم، وما حل فيه من دمار كبير خلال عدوان الاحتلال فيما عرف باسم "السور الواقي" عام (2002م).
درس أوس المرحلة الابتدائية والإعدادية بمدارس الوكالة في المخيم، قبل أن يتجه لأعمال مهنية لمساعدة والده، تميز عن أشقائه بالفكاهة والابتسامة التي لا تفارق وجنتيه، يقول ابن عمه سامح: "كان أوس هادئ جدًا وكاتم للأسرار ومحبوب، لم أسمع في حياتي عن شخص طرق منزل عمي مشتكيًا من أوس".
بداية عشق الوطن
منذ نحو أربعة أعوام، اشتدت يد البطش والظلم من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي على أبناء شعبنا في فلسطين "اعتداءات واعتقالات.. إصابات وشهداء.. عدوان مستمر على القدس وقطاع غزة"، أحداث خطيرة يتعرض لها أبناء شعبنا، صراخ طفلِ ومشهد مستوطن يدوس على صدر امرأة فلسطينية أثارت الحمية في القلوب الثائرة.
جرائم وأحداث مؤلمة يرتكبها المستوطنون تحت حماية جنود الاحتلال بحق أبناء شعبنا، تسببت بارتفاع مؤشر حرارة القلب لدى الشاب أوس، فانتفض غاضبًا مما يراه عبر منصات التواصل في تلك اللحظة تحول إلى رجل ثائر مقاتل، اندفع بقوة بحثًا عن وسيلة للانضمام لـ "كتيبة جنين".
تمكن أوس من الانضمام للكتيبة وبدأ يمارس الفعل المقاوم ضد العدو انتقامًا للجرائم الإسرائيلية، دون أن يعرفه أحد يقول ابن عمه سامح: "يحب أوس أن يلقب بـ "رجل الظل"، فقد كان يقاوم ويقاتل العدو دون أن يتعرف عليه أحد، حتى أنا شخصيًا لم أكن أعرف أن أوس أحد المقاتلين في الكتيبة".
وصية الشهيد
"كان كتومًا جدًا لأسراره؛ لكن حدث أمرًا لم أتوقعه مطلقًا"، يقول سامح بصوت مليء بالحزن والأسى ليروي تفاصيل الليلة الأخيرة التي قضاها مع الشهيد ابن عمه "أوس"، كان مؤشر عقارب الساعة يُشير إلى الثامنة ليلًا من يوم الأحد، الأجواء هادئة، وشفتي أوس لم تتوقفا عن الابتسامة وحركاته وكلماته ترسمان الضحكة بين أصدقائه.
دخل أوس وابن عمه سامح إلى غرفة في منزله كانا يمزحان كثيرًا، وفي تلك اللحظات كانت الكلمات تتسلل من لسان أوس الذي أوصى ابن عمه: "يا سامح أنت مسعف وانا لا أريد لأحد أن يحمل جثتي عن أرض المعركة إلى أنت هذه وصيتي لك".
لم يُلقِ سامح بالًا لتلك الكلمات التي انتهت بضحكة وابتسامة عريضة، لكن اللقاء انتهى وغادر سامح إلى المنزل أما أوس انطلق إلى أحب مكان لقلبه وهو ساحة مخيم جنين التي كان يرابط فيها خشية من تسلل قوات خاصة إسرائيلية داخل المخيم.
ليلة استشهاده
ساعات قليلة فقط على انتهاء اللقاء، لتبدأ طائرات الاحتلال الإسرائيلي بقصف ساحة مخيم جنين من جميع الاتجاهات، في تلك اللحظة رن هاتف سامح من المستشفى بأن استعد لعمل طارئ داخل المخيم لإسعاف المصابين.
فورًا انطلق سامح برفقة سيارة الاسعاف وبعضًا من زملائه المسعفين صوب القصف الإسرائيلي، ليتلقى أولى الصدمات، دمار كبير في ساحة المخيم التي تحولت إلى بركة دماء، آثار السيارات المدمرة والركام كان هائلًا جدًا.
عندما وصل مؤشر الساعة إلى الثانية والنصف فجرًا عادت طائرات الاحتلال؛ لتقصف ساحة المخيم، وفي تلك اللحظات عم ظلام دامس لانقطاع التيار الكهربائي، ولم يبقى سوى إضاءة سيارة الاسعاف، هناك على اليمين صوت أحد الأشخاص يصرخ بشدة: "شهداء وجرحى في الساحة أسرعوا انقذوا المصابين".
ركض سامح وسط الركام وأزيز الطائرات وأصوات القصف هنا وهناك، حاملًا بيده "الشيالة"، مطالبًا الشباب المتواجد في الساحة بمساعدته، وبعد معاناة شديدة وضع سامح أحد الجرحى على "شيالته" وانطلق مسرعًا صوب سيارة الاسعاف.
"أسرع الشاب مصاب بجروح خطيرة، إصابته في الصدر عميقة جدًا"، قالها سامح وهو يصرخ بوجه سائق الاسعاف؛ وفجأة خيَّم الصمت، عاد سامح خطوات قليلة إلى الخلف فاصطدم ظهره بكرسي المسعف واضعًا يديه على رأسه، ليصرخ بأعلى صوته: "مش معقول أوس هادا أنت يا أوس".
انهمرت الدموع المختلطة بالدماء، لكن سامح حاول استعادة توازنه لإنقاذ ابن عمه، التقط شاشة صغيرة من حقيبة الاسعاف وإغلاق الجرح النازف في قلب "أوس"، لكن دون جدوى، إذ غطست أنامله الصغيرة في قلب ابن عمه، كان الجرح غائرًا وقريبًا من القلب.
تجمدت الحياة في قلبه، فعندما وصلت سيارة الاسعاف إلى المستشفى انطلق سامح مسرعًا داخل قسم العناية المكثفة؛ أملًا في إنقاذ أوس الذي تركه قبل ساعات قليلة فقط يضحك ويمزح ويمرح في المنزل.
دقائق قليلة مضت، وشريط الذكريات لا يمكن أن ينسى تلك الحادثة المؤلمة التي عاشها سامح ليقول: "لقد تحققت وصيت أوس فقد نقلت جثته من أرض المعركة عندما كان جريحًا وسأنقله الآن إلى ثلاجات الموتى بعد أن أغمض عينيه وسكنت نبضات قلبه".