راغدة عسيران
قبل أيام، أزالت السلطات الأردنية لافتة تذكّر بيوم "7 أكتوبر" المجيد، وضعها صاحب مطعم في مدينة الكرك، بحجة أن القانون الأردني يمنع وضع لافتات "سياسية"، في حين أن شوارع المدن الأردنية لا تخلو من اللافتات "السياسية"، تذكر بفلسطين والنكبة والمعارك البطولية (معركة الكرامة مثلا).
إزالة اللافتة عن واجهة المطعم جاء بعد احتجاج موظف صهيوني معتبرا أن يوم "7 أكتوبر" يوم أسود وكارثي لدى كيان العدو لا يجب التذكير به، وذلك لأن العدو تلقى ضربة قاسية، عسكرية وأمنية وإعلامية، وجهتها له المقاومة الفلسطينية المظفرة.
منذ ذلك اليوم الذي أطلق معركة طوفان الأقصى، يحاول الكيان الصهيوني والصهاينة في العالم، الحكومات الغربية والإعلام التابع لها، جعل من يوم 7 أكتوبر حدثا شبيها بالمحرقة التي نفذتها الدول الغربية، أولها ألمانيا، بحق الأوروبيين اليهود باعتباره حدث عالمي دون سواه، في حين طالت المحرقة الأقليات الأثنية أيضا (الغجر) ونفذت الدول الغربية الليبرالية، الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا وبريطانيا، حروب إبادة جماعية ومحارق عدة بحق شعوب العالم.
اعتبر الكيان الإستيطاني الصهيوني أن هذا اليوم، ولإنه شكّل هزيمة مدوية له وللغرب الاستعماري، يجب إدانته من قبل العالم أجمع، واعتبار المقاومين الذين نفذوه "إرهابيين" يجب إبادتهم. يطالب الصهاينة المجرمون من العالم، الحكومات والمؤسسات الدولية والإعلام "المحترم"، أن يتم نبذ وتجريم المقاومة الفلسطينية، وخاصة "الإسلاميين" الذين نفذوا هذه العملية البطولية.
انطلاقا من الإذعان للمطالب الصهيونية، قامت وكالة الأونروا بإقالة موظفين لديها، بعد أن وصلها تقرير من الشاباك، بأن هؤلاء الموظفين شاركوا بطريقة ما باليوم المجيد، ما يعني أن الأونروا، كمنظمة دولية مسؤولة عن تشغيل ورعاية اللاجئين الفلسطينيين، لحين عودتهم الى الوطن فلسطين، رضخت لأجهزة مخابرات صهيونية، جمعت "أدلة" ضد هؤلاء الموظفين عبر تعذيب الآلاف من المعتقلين في سجونها. ثم قامت بعض الدول الغربية بتجميد مساهمتها المالية للوكالة للسبب ذاته.
في المؤسسات المحترمة دوليا، لا تؤخذ بعين الاعتبار الشهادات التي تُنتزع من جراء التعذيب الجسدي والمعنوي، لكن الأونروا، ولأنها منظمة تابعة للتمويل الأجنبي وغير مهتمة بطبيعة الكيان الإرهابية والاستيطانية،ولأن المسؤولين فيها مهتمين برواتبهم أكثر من تحمل مسؤولياتهم (كما صرّح كريغ مخيبر، المدير السابق لمكتب المفوضية السامية لحقوق الإنسان في نيويورك، والذي استقال بسبب تواطؤ منظمات الأمم المتحدة مع العدو)، اعتبرت أن عليها الرضوخ لإملاءات الصهاينة. والجدير بالذكر أن العدو الصهيوني اغتال أكثر من 150 موظفا فلسطينيا بهذه الوكالة في قطاع غزة، ودمّر مدارسها ومستشفياتها في عملية الإبادة الجماعية التي يقترفها، إلا أنه لم يصدر منها إلا تصريحات باهتة ضد العدوان، خشية من إقالة مسؤوليها الأجانب من مناصبهم المربحة.
ماذا لو كان هؤلاء الموظفون عملاء لجيش العدو؟ هل كانت ستقيلهم الأونروا من وظيفتهم وهل كانت الدول الغربية المشاركة في الإبادة الجماعية في غزة ستجمد دفع مستحقاتها المالية؟
ومن ناحية أخرى، ما علاقة الأونروا بما يفعله الموظفون خارج الخدمة وإن كانت هذه المشاركة فعلية، فلم يقم هؤلاء الموظفون إلا بواجبهم الوطني، لكن اعتادت هذه المنظمة الدولية، هي وسائر المنظمات التابعة للأمم المتحدة أو للاتحاد الأوروبي، بمعاقبة الكلمة الحرة والعمل المقاوم الصادر عن الشعب الفلسطيني، متماهية مع الأوامر الصهيو-أميركية الساعية الى تنفيذ التهجير والإبادة الجماعية دون ضجّة ومقاومة.
لقد ركّز الإعلام الصهيوني، الصادر عن حكومة العدو وجيشه وعن الحكومات الاستعمارية الغربية، على هذا اليوم المجيد، لتبرير حرب الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين في قطاع غزة ومحاولات تهجيرهم الى خارج فلسطين، دون وضعه في سياقه التاريخي (احتلال فلسطين، الإرهاب الصهيوني في الضفة الغربية والسجون، حصار قطاع غزة، تهويد المقدسات). رغم ذلك، فنّد عدد من المنصات الإعلامية الحرة أكاذيب العدو واتهم جيش العدو بارتكاب المجازر يومها ضد "المدنيين الإسرائيليين" في المستوطنات، تطبيقا لعقيدة "هنيبعل" لمنع المقاومين من خطف الصهاينة واستبدالهم بآلاف من الأسرى الفلسطينيين القابعين في سجون العدو.
اخترع العدو رواية كاذبة وما زال يروّجها حول ما حدث ذلك اليوم، حين عبر المجاهدون الى الأرض المحتلة وكسروا هيبة الجيش المعتدي وحطموا معنوياته ودفنوا مشاريع تسوية أميركيىة-صهيونية-عربية تلغي القضية الفلسطينية. ويحاول اليوم تجريم الفعل المقاوم ومحوه من الذاكرة عبر منع تداوله كيوم انتصار للحق الفلسطيني واعتباره يوم كارثي ليس فقط للكيان الصهيوني بل للعالم أجمع.
هو إذا صراع حول الرواية والتواريخ، المستمر منذ إقامة هذا الكيان الاستيطاني على أرض فلسطين.
لقد واجه فلسطينيو 48 قبل عقود محاولة استبدال التاريخ الفلسطيني بتاريخ صهيوني عندما رفعوا شعار "يوم استقلالكم هو يوم نكبتنا"، أي أن يوم 15 مايو/أيار أو ما يساويه في الرزنامة اليهودية هو يوم إقامة الكيان الصهيوني على أشلاء الشعب الفلسطيني ويجب ألا يحتفل به العالم الحر، بل التذكير بأن كيان العدو ليس إلا مستوطنة غربية أقيمت لمحو فلسطين وشعبها وتاريخها.
الصراع حول التواريخ والذاكرة توسّع الى أروقة الأمم المتحدة، التي جعلت من يوم 29 نوفمبر/ تشرين الثاني يوما عالميا "للتضامن مع الشعب الفلسطيني" حيث تقام الاحتفالات، دون التذكير بالتواطؤ مع جريمة تقسيم فلسطين في ذلك اليوم، في حين أن "يوم 29 نوفمبر يصادف ذكرى صدور قرار تقسيم فلسطين، في العام 1947. شكل ذلك القرار المشؤوم عنصراً أساسياً في مأساة شعبنا، ومنح المشروع الصهيوني الهادف إلى سرقة أرضنا غطاء من هيئة الأمم المتحدة، ومهد الطريق أمام نكبة شعبنا في العام 1948"، كما جاء في تصريح صادر عن حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين. هل استبدلت الأمم المتحدة التغطية الأممية لهذه الجريمة بيوم احتفالي خاص بالشعب الفلسطيني واستبدلت حق المقاومة بيوم تضامن، بعد أن حوّلت "حقوق الشعب الفلسطيني" التاريخية الى "حقوق شعوب المنطقة الى العيش بسلام".
مع تصاعد التضامن العالمي مع الشعب الفلسطيني ومقاومته، والمقاومة ضد العدوان الصهيو-أميركي في المنطقة (لبنان واليمن والعراق وسوريا)، ما زالت تلجأ الدعاية الصهيونية الى ذلك اليوم، وتريد إلغاءه من الذاكرة الشعبية وتصويره كأقبح الأعمال التي حصلت في العالم، لأنه تسبب بهزيمة الكيان الاستيطاني أمام المجاهدين، ولتبرير مواصلة العدوان الهمجي والمذابح بحق الشعب الفلسطيني.
لقد رفضت المحكمة الدولية طلب وقف العدوان الهمجي بسبب الأكاذيب التي تروّجها "إسرائيل" حول يوم 7 أكتوبر وحقه االمزعوم بالدفاع عن النفس، لكن "غلاف غزة" ما هو إلا اقتطاع جزء من غزة التاريخية وأقيمت مستوطنات العدو على أنقاض قرى وبلدات فلسطينية التي هجّر أهلها خلال النكبة، إضافة الى أن فرقة غزة الإرهابية قتلت الآلاف من الفلسطينيين في الحروب السابقة.
إن معركة "طوفان الأقصى"، التي بدأت يوم 7 أكتوبر، هي معركة الدفاع عن النفس وعن القضية الفلسطينية التي تسعى لتصفيتها المشاريع الصيهو-أميركية في المنطقة. فكل المقاومة في المنطقة، ومنذ بداية القرن العشرين، هي دفاع عن النفس وعن حرية شعوبها العربية.يدافع الشعب الفلسطيني عن نفسه ووجوده وعن أرضه، هذا ما يجرّمه العدو والدول الغربية، وتباعا، المؤسسات الدولية.
لم يتمكن العدو الصهيوني، ولا الولايات المتحدة رأس الإرهاب، ولا الدول الأوروبية، من تجريم المقاومة في فلسطين لأن المقاومة تبقى حقا وواجبا انسانيا، وسيواصل الشعب الفلسطيني مقاومته حتى نيل حريته، وسيرفض الحلول المنقوصة التي يقدمها الغرب لضمان السيطرة الصهيونية الغربية على المنطقة، وعلى شعوب الأمة.
وسيبقى يوم 7 أكتوبر شعلة مضيئة نحو الحرية والكرامة، حرية الأسرى وحرية الشعب الفلسطيني وشعوب الأمة. فلذلك، المطلوب من الأمم المتحدة أن تتبنى هذا اليوم كيوم للتضامن مع الشعب الفلسطيني، بدلا من يوم 29 نوفمبر الذي يذكّر بالتواطؤ الأممي مع الجريمة الصهيونية.