إن رحلة الإسراء والمعراج وسورة الإسراء وضعت للنبي المفتاح الإستراتيجي الثاني لتمكين المشروع في العالم ككل هو فتح بيت المقدس، ﴿سبحان الذي أسرىٰ بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا ۚ إنه هو السميع البصير﴾ (الإسراء: 1)
كما وضعت سورة قريش المفتاح الإستراتيجي الأول لتمكين المشروع في جزيرة العرب هو فتح مكة، ووضعت بعض ملامح زماننا هذا، فللسيطرة على جزيرة العرب يجب ضرب قوتي قريش.
ضرب القوة الأولى كان بعد الهجرة مباشرة بتهديد قوافل قريش وكان سبب لمعركة بدر، وضرب القوة الثانية كان صلح الحديبية ودخول مكة معتمرين بقوة المفاوضات
القوة الأولى، هي المحور السياسي القرشي المرتكز على حركة التجارة (لإيلف قريش إلفهم رحلة الشتاء والصيف)، والقوة الثانية هي سيادة قريش على البيت الحرام (فليعبدوا رب هذا البيت)، فالعرب يدينون لقريش لسيطرتها على الكعبة، وكما قال أبو بكر رضي الله عنه: إن العرب لا تدين إلا لهذا الحي من قريش.
فضرب القوة الأولى كان بعد الهجرة مباشرة بتهديد قوافل قريش وكان سبب لمعركة بدر، وضرب القوة الثانية كان صلح الحديبية ودخول مكة معتمرين بقوة المفاوضات لكسر هيمنة قريش على البيت الحرام.
قبل الهجرة كانت تتشكل فكرة المشروع كاملة بكل أبعادها وخططها وإستراتيجيتها وعالميتها عند النبي وأصحابه، لأن عامل وضوح وبعد الرؤية ضروري لنجاح أي فكرة، فصلى النبي بالأنبياء في المسجد الأقصى لتسلم ريادة المشروع وقيادة البشرية، وكانت بداية الرحلة من مكة (المحطة الإقليمية العربية) ثم المعراج من المسجد الأقصى إلى السماء (المحطة العالمية)، وصدق من قال (من يملك القدس يملك العالم).
أما البعثات العسكرية بعد فتح مكة حتى وفاة النبي (غزوة مؤتة، غزوة تبوك، بعث أسامة) كانت باتجاه الشام وبيت المقدس، وكان أمره كونه القائد الأعلى للقوات المسلحة لقائد الجيش أسامة أن يوطئ الخيل تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين (الداروم منطقة في غزة)، وهو على فراش الموت يوصي ويقول"أنفذوا بعث أسامة بن زيد… أنفذوا بعث أسامة".
وتوفي النبي بعد إرسال جيش أسامة، ولكنه نبي العالمين وأرسل للناس كافة، فكيف يموت وهو لم يفتح كل العالم بعد؟
لقد أسس النبي صلى الله عليه وسلم، نظاما دوليا ربانيا يقوم على تقديس الأخلاق ومحاربة كل قطب، ويعتمد على القوة والنفوذ والمال في سياسة العالم. والواقع اليوم يشبه الواقع قبل تأسيس النظام الدولي الرباني بقيادة النبي ليكون إستراتيجية لنا قابلة للتحقيق لكل زمان ومكان، وجاء اختيار النبي وصحابته في مكة ليكونوا لبنة هذا التأسيس العالمي على ضعف قوتهم ومالهم ونفوذهم وسلطانهم، ولكنه تأسيس يتمم مكارم الأخلاق ومربوط بقوة ربانية فصلت المنهج وطبقه النبي وأصحابه بإستراتيجية لا يصلح العالم اليوم إلا بها.
أدرك أبو بكر الصديق بعده الرؤية السياسية الإستراتيجية فقال: "لو ظننت أن السباع تخطفني، لأنفذت بعث أسامة، كما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو لم يبق في القرى غيري لأنفذته ".
وأدرك بعدهما عمر بن الخطاب أهمية فتح مدينة القدس سلما لا حربا، لأن أنظار العالم كلها تتجه وتترقب ما يحدث في القدس، وهذا واقع في كل زمان، فسافر إليها وفتحها وأعطى الأمان لسكانها ومعابدها كما حرص النبي أن تفتح مكة سلما دون إراقة الدماء، لأن جزيرة العرب كانت تترقب ما سيحدث في فتح مكة، ومعنى آخر مهم هو أن تعتلي قيمة السلم والعفو والتسامح قمة أخلاق هذا المشروع الذي يجب أن يدخل قلوب الناس لتصل الرسالة للعالم أجمع.
تداعيات هجوم 7 أكتوبر(طوفان الأقصى) وما خططت له الطائفة القليلة في غزة، أصبحت واضحة بتشكلات وتغيرات جوهرية في العالم على المستوى السياسي والشعبي
ما يحدث في العالم اليوم من تصارع القطبين الأميركي والروسي والصيني، يذكرنا بتصارع الإمبراطوريتين الرومانية والفارسية، تصارع قائم على المصالح والسيطرة على حركة التجارة العالمية عبر الممرات المائية والتحكم في الدول بالقواعد العسكرية. ليأتي بعدها تأسيس القطب الرباني الذي نشر العدل وحرر الناس من عبادة وولاءات الأشخاص والمال والسلطة إلى عبادة الله والولاء له فقط.
إن تداعيات هجوم 7 أكتوبر(طوفان الأقصى) وما خططت له الطائفة القليلة في غزة، أصبحت واضحة بتشكلات وتغيرات جوهرية في العالم على المستوى السياسي والشعبي، وقد لخصت ما يحدث متظاهرية هولندية عند محكمة لاهاي حين قالت: "أشعر بأمر رائع.. يبدو وكأن عالما جديدا قادم"، وقال رئيس جنوب أفريقيا: نشعر بالفخر بالدفاع عن قضية فلسطين.. ولن يتحرر العالم إلا إذا تحرر الشعب الفلسطيني".
والصراع في البحر الأحمر وضرب المصالح الأميركية البريطانية دليل على تصدع المحور الغربي وعدم قدرته على الردع، وهنا تتغير موازين القوى في المنطقة ويبرز محور المقاومة كفاعل عسكري وسياسي، وحينها تتشكل خريطة جيوسياسية جديدة تمهد للصراع القادم الذي سيحدد مصير إسرائيل في المنطقة، وملامح القطب الجديد نواته الطائفة المقاومة في غزة.
"لا يضرهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لأواء، حتى يأتيهم أمر الله". وهم كذلك ، "فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا" (الإسراء: 7)