إذا قمنا بإحصاء الضحايا في اليمن وسوريا والعراق وليبيا ومصر لوجدنا أن أبناء الحكام وأبناء حاشياتهم لا يموتون ولا يشاركون في القتال.
إنها حروب الاستبداد، تماما مثل حروب رأس المال، حيث قام الرأسماليون بعدد من الحروب في مختلف بقاع الأرض، وذلك بهدف السيطرة الاقتصادية وفتح أسواق جديدة وتحقيق أرباح مالية متعاظمة.
وكم من الناس البسطاء والفقراء والكادحين قتلوا أو جرحوا وشوهوا وعوقوا بسبب هذه الحروب. طالما كان من لا مصلحة لهم بالحروب ضحايا الحروب، وكانوا دائما أدوات الرأسماليين في صناعة الحروب، من مات منهم مات بلا ثمن، ومن عاش منهم لم يحصد سوى المزيد من الفقر والمعاناة، وقد وقعت أسر المقاتلين في ضيق نفسي ومالي شديد بسبب استغلال الرأسماليين وتجاهلهم تضحيات الأبرياء.
النصر كان دائما نصر الرأسماليين والهزيمة فقط للأبرياء والمساكين دون أن يتحمل مسؤوليتها رأسمالي واحد. ولم يتورع الرأسماليون عن تزيين حروبهم ووصفها بالمقدسة التي تدافع عن الإنسان وحقوقه، وتسعى إلى تحقيق رفاهيته، ودائما ألصق الرأسماليون صفة الوطنية بحروبهم من أجل استدرار عواطف الناس وتحميسهم لخوض الحرب، لقد استعملوا أساليب متعددة من أجل دفع الناس إلى الموت تحت وهم الدفاع الوطني والواجب الوطني المقدس.
حروب الاستبداديين
"لا تختلف حروب الاستبداديين عن حروب الرأسماليين جوهريا سوى أن هدف الاستبداد هو البقاء في الحكم والهيمنة على المقدرات الاقتصادية والمالية للدولة، وليس بالضرورة السيطرة الاقتصادية على أمم أو دول أخرى وجني الأرباح المالية"
خاض ملوك أوروبا العديد من الحروب الداخلية والخارجية من أجل مصالحهم، ولم يكن الأمر مختلفا في شرق آسيا وأواسطها، وكذلك في المنطقة العربية الإسلامية، حتى أن قادة القبائل العربية في الجزيرة العربية كانوا يضحون بأبناء القبيلة وبخدمها من أجل الحفاظ على مكانتهم في التركيبة الاجتماعية العربية "المتخلفة".
وفي المنطقة العربية، لم يتردد الحكام العرب الاستبداديون يوما في ملاحقة معارضيهم واتخاذ الإجراءات التعسفية ضدهم، والزج بهم في المعتقلات وتعذيبهم وأحيانا قتلهم، وما زالت الساحة العربية تشهد الحملات الأمنية القاسية التي تنفذها أجهزة الأمن العربية بأوامر من القادة السياسيين والحكام، وما زال المواطن العربي من أشد الناس في العالم عرضة للإهانة والإذلال والقمع والملاحقة، والسبب أن الحاكم لا يطيق ناقديه أو معارضيه، فيلجأ للعنف لتحقيق صمت الناس وحشرهم في زاوية الرعب والخوف.
فضلا عن ذلك، دأب الاستبداديون العرب على تشويه صورة المعارضين، مستغلين في ذلك بعض القيم الدينية والوطنية. في كل البلدان العربية، لجأ الحكام العرب إلى وصف معارضيهم بالغوغائيين الشيوعيين الذين تحركم قوى خارجية، والذين يسعون إلى زعزعة استقرار الدولة وتدمير اقتصادها خدمة لمن يسمون أعداء الأمة والمتربصين بها، ولم يكن استعمال الشيوعية عفويا، وإنما كان مقصودا على اعتبار أن الشيوعي كافر وملحد ولا يؤمن بالقيم الدينية، وهو خارج عن ملة المسلمين.
وقد كان هذا التصنيف سابقا للتصنيف الجديد "سنة وشيعة"، على الرغم من أن المقصود بالتصنيفين هو إحداث الفتنة الداخلية. بعدما انهار الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية عموما، بحث الحكام العرب عن موضوع فتنة جديد، فوجدوا ضالتهم في الفتنة السنية الشيعية، وذلك من أجل إضعاف قدرات الناس، ومن أجل استجلاب الموضوع مع كل أزمة تمر بها الدولة العربية.
ما الذي يضير الحكام العرب إذا افتتن الشيعة والسنة واقتتلوا وأنهكوا قواهم؟ لا شيء، بل على العكس وكما نعرف تاريخيا أن سياسة الحكام العرب تقوم على استقطاب الولاء والتفرقة بين الناس، وأكبر دليل على هذه السياسة هو شيوع الوساطات والمحسوبيات في الساحة العربية، والتي تعتبر ممارسة عنصرية تولد الكراهية والبغضاء بين صفوف الناس.
ولم يكن الحكام العرب يترددون في تشويه صور معارضيهم فيوجهون ضدهم تهما أخلاقية لا أساس لها، ويصفونهم بصفات يتعوذ منها الشيطان، وذلك لتقبيح صورهم أمام الناس وعزلهم عن محيطهم الاجتماعي وقطع طريق تواصلهم مع الجمهور. سرعان ما كانت وما زالت تصدر بيانات عن الحكومات تعنى فقط بالتشويه دون التطرق إلى مطالب المعارضين، ولم يكن العربي يسمع عبر وسائل الإعلام العربية عن أهداف المعارضين وتطلعاتهم، وإنما كان يسمع فقط ما يسمى حكمة القائد الفذ وحنكته السياسية وقدراته العجيبة على احتواء الفتن وأسباب التمزق الاجتماعي.
الاستنفار الوطني
"لم يكن الحكام العرب يترددون في تشويه صور معارضيهم فيوجهون ضدهم تهما أخلاقية لا أساس لها، ويصفونهم بصفات يتعوذ منها الشيطان وذلك لتقبيح صورهم أمام الناس وعزلهم عن محيطهم الاجتماعي وقطع طريق تواصلهم مع الجمهور"
أما دار الإذاعة والتلفاز فكانت تعمد إلى بث الخطابات النارية للمسؤولين في الدولة من أجل تهييج الناس فيصادقون على قرارات الحاكم ويقدمون له الدعم، وكان بث الأغاني والأهازيج الوطنية يترافق مع الحملات الإعلامية الرافضة للمنشقين والمؤيدة للحكام.
أما على صفحات الجرائد الأولى فكانت تنتشر بيانات الدعم والتأييد للحاكم دون أن نجد بيانا واحدا ضده، كانت وسائل الإعلام توهم الناس بأن الحاكم مفوض إلهي منزه لا يخطئ، وهو فوق النقد، وفوق المعارضة. وطالما أسهم الإعلام والعديد من المثقفين ورجال الدين المنافقين في ترسيخ الظلم وتغييب وعي الناس من أجل تحقيق مصالح بخسة.
وعادة يلجأ الحاكم العربي إلى سوق الناس لصناعة مظاهرات لإظهار التأييد العارم له أمام العالم. الأنظمة العربية سيرت مظاهرات عديدة مؤيدة للحاكم بدعم كبير من أجهزة الأمن خاصة المخابرات. كانت أجهزة الأمن تضغط على الناس من أجل المشاركة في المظاهرات ورفع أعلام الدولة على أسطح المنازل وأبواب المحال التجارية.
من الملاحظ أيضا أن الحكام العرب يحاولون تغيير سلوكهم العام وقت الأزمات، خاصة في ما يتعلق بالأمور الدينية. نجد الحكام مثلا يرتادون المساجد بكثرة وقت الأزمات وذلك لإظهار ورعهم وتقواهم، ولإيهام الناس بإيمانهم القوي وبتمسكهم بالقيم الإسلامية، ونجدهم أيضا في صلوات يوم الجمعة، وصلوات الأعياد، وفي المناسبات الدينية مثل الإسراء والمعراج والمولد النبوي. إنهم يحاولون امتصاص غضب الناس والحيلولة دون امتداد تأثير المعارضين على جمهور الناس.
وأذكر كيف أخذ يتصرف الحكام العرب أثناء الثورة الإيرانية على شاه إيران أواخر عام 1978 وأوائل عام 1979، كلهم كانوا يقولون إنهم يصومون، وأكثروا من موائد الإفطار التي كانوا يدعون فيها رجال الدين وخطباء المساجد. وقد كنت في حينها -وعندما كنت مدرسا في الجامعة الأردنية- قد نوهت إلى الأمر وما يقصد به من تضليل، فاستدعتني المخابرات الأردنية للتحقيق.
لكن مشكلة الحاكم في تغيير السلوك كمشكلة أي شخص آخر، وهي أن الطبع يغلب التطبع، فسرعان ما ينسى الحاكم سلوكه الجديد ليعود إلى سابق عهده في الظلم والاستعباد والاستغلال ونهب الثروات.
حروب الحكام العرب
"تدخل العرب بشكل سافر في الثورات العربية وحرفوها عن مسارها التاريخي الصحيح، وتحولت من حراك جماهيري إلى حروب بالوكالة بين الحكام، وبدل أن تأتي الهبات بالخير للناس تحولت إلى ويلات تأتي على الأخضر واليابس في عدد من البلدان العربية"
تدخل العرب بشكل سافر في الثورات العربية وحرفوها عن مسارها التاريخي الصحيح، وتحولت من حراك جماهيري إلى حروب بالوكالة بين الحكام، وبدل أن تأتي الهبات بالخير للناس تحولت إلى ويلات تأتي على الأخضر واليابس في عدد من البلدان العربية. والمشكلة أن الذين سعوا إلى تغيير أنظمة الحكم وقعوا فريسة في أيدي أنظمة عربية مناوئة لأنظمة تشهد أزمات مثل النظامين العراقي والسوري والنظام المصري. ربما لم يكن بمقدور حكام عرب شن حروب مباشرة ضد حكام آخرين، فوظفوا من يسمون أنفسهم الثوار للقيام بحروب بالوكالة وأمدوهم بالمال والسلاح.
الحكام العرب ليسوا موفقين من الله، وكل حكمهم شرّ بشرّ، وهم يكملون شرورهم بتدمير مقومات الحياة للناس البؤساء والفقراء والمساكين. الفقراء والبائسون والمضطهدون في البلدان العربية هم الذين يموتون، وهم الذين يفقدون أعضاءهم ويتحولون إلى معاقين، وذلك بسبب حروب لا تختلف عن حروب الجاهلية في الجزيرة العربية.
دول قمعية استبدادية تتلاعب بأموال الأمة تريد إقامة ديمقراطية في دول استبدادية أخرى بدماء الناس ونفوسهم. فإذا قمنا بإحصاء الضحايا في اليمن وسوريا والعراق وليبيا ومصر لوجدنا أن أبناء الحكام وأبناء حاشياتهم لا يموتون ولا يشاركون في القتال. فقط المستغَلون هم الذين يدفعون ثمن حروب المستبدين، ومطلوب منهم ومن كل الفئات الفقيرة والمحتاجة والمقموعة في الوطن العربي أن تصحو، وأن ترفض خوض معارك للدفاع عن المستبدين الذين ينتهكون حرمات الوطن وحرمات الناس كل يوم.
حروب الاستبداد ليست حروبنا أيها الناس البسطاء، ومن العار علينا أن نصدق ما يقولون أو أن نسير في الطرق التي يسلكونها. هؤلاء هم مصادر إذلال الأمة وقمع الإنسان، وواجبنا أن نواجههم لا أن نهادنهم أو أن نستجيب لنزواتهم ورغباتهم في التدمير وسفك الدماء.