بيدها تُمسك "آمنة" ملقطاً خشبياً طبياً، وبيدها الأخرى تُمسك مِرَآةً، أمامها يجلس مجموعة من الأطفال بتناسقٍ دائريٍّ داخل خيمةٍ صغيرةٍ في مدينة الزوايدة وسط قطاع غزة، بإتقانٍ تُلقِّنُ الأطفال مجموعة من الكلمات وسرعان ما يُردِّدون ذات الكلمات خلفها، وهي تُراقِبُ بتركيزٍ شديدٍ حركات شفاههم ومخارج الحروف لديهم.. يتقدم الطفل "أحمد" ويجلس أمامها بانتباهٍ مُوجِّهاً وجهه إلى المِرْآة، وبعد ارتداء "قفازاتها الطبية" تضع الملقط الخشبي بفمه وتُحاوِل تصحيح "تلعثمه" في نطق حرفي الفاء والثاء؛ لتبدأ بذلك أولى جلساته العلاجية لديها.
الأخصائية " آمنة الدَّحدوح" استطاعت إعادة افتتاح مركزها المتخصص في علاج مشاكل النطق لدى الأطفال، والذي دمرته قوات الاحتلال الإسرائيلي خلال حربها على غزة، وأطلقت مبادرة (صُنَّاع الأمل)، لمساعدة الأطفال في التغلب على صعوبة النطق ومشاكل الكلام التي تفاقمت بسبب الخوف والصدمات الناجمة عن الحرب الإسرائيلية المستمرة على قطاع غزة.
في لحظةٍ صادمةٍ وخاطفةٍ، فَقَدت "آمنة" بيتها ومركزها العلاجي وعملها وأحلامها وسوَّتهم طائرات الاحتلال وآلياته العسكرية بالأرض، وأحالتهم رماداً، واستشهد العديد من أبناء عائلتها، خلال الاجتياح الإسرائيلي الأول لمجمع الشفاء الطبي في المنطقة الغربية الوسطى من مدينة غزة، وأُجبرت على النزوح مع عائلتها قسراً إلى جنوب وداي غزة؛ هرباً من آلة القتل الإسرائيلية.
رحلة النزوح إلى الجنوب كانت محفوفة بالمخاطر والموت ولم تكن سهلة، وعانت (الدحدوح) ظروفاً مأساوية صعبة على الصعيد المادي والمعنوي والنفسي، لكنها استطاعت -كما باقي أهالي القطاع المحاصر- التأقلم مع الواقع الجديد، والنهوض من وسط الدمار كطائر العنقاء، واستعادت قوتها ببطء مقررةً استئناف عملها في مساعدة الأطفال.
لاحظت "آمنة" انتشار حالات التأتأة بشكل كبير وصادم بين الأطفال نتيجة الصدمات النفسية التي يتعرضون لها جراء الحرب المستمرة، وهنا أدركت أنها لا تستطيع الوقوف مكتوفة الأيدي أمام هذه المأساة.
على الرغم من الصعوبات التي واجهتها "الدحدوح"، والتي كان في مقدمتها عدم توفر مكان مخصص لتشغيل مركزها، وصعوبة الحصول على الأدوات الخاصة بعملها، مثل: القفازات والمرآة وخافض اللسان وغيرها؛ نظراً لسعرها المرتفع، إلا أنها حسمت قرارها في أحد الأيام بينما كانت تخبز على الفرن الطيني، شاهدت طفلة تتعرض للتنمر، وبعد استفسارها عن السبب، علمت أن الطفلة تعاني من تأتأة وتعلثم ومشاكل نطقية ونفسية.
لمتابعة آخر المستجدات الميدانية والسياسية للحرب على غزة اشترك بقناة شمس نيوز على منصة تيلجرام
كان هذا الموقف بمثابة شرارة الأمل التي انطلقت في نفس "آمنة" وعزَّز رغبتها القوية في مساعدة الأطفال، فتحدثت مع أهل الطفلة (فاطمة) وعرضت عليهم مساعدتها، لكنها صُدِمت حينما عرفت أنهم لا يستطيعون دفع التكاليف العلاجية بسبب الوضع الصعب، فقررت مساعدة الأطفال مجاناً، معلنةً بذلك بداية مبادرتها الإنسانية (صُنَّاع الأمل).
الطفلة (فاطمة) كانت أولى الخاضعات لجلسات علاج النطق عند الأخصائية (الدحدوح) التي حوَّلت خيمتها الخاصة بعد انتهائها من الأعمال المنزلية، إلى مركز مؤقت للعلاج، وكانت النتائج مُرضية وواضحة من الجلسة الأولى، ما شجعها على تعميم الفكرة ليستفيد منها أكبر عدد من الأطفال في مخيم النزوح الذي تعيش فيه.
ظلَّ المكان هاجساً يُلاحِق "آمنة"، فعرضت فكرتها على إدارة المخيم، وصُدِمت بعدم قدرتهم على توفير خيمة مستقلة لها، ورغم الصعوبات، تمكنت من الحصول على موافقة لاستخدام خيمة الإدارة من وقت "العصر حتى المغرب" لإجراء الجلسات، كانت جلسات العلاج منظمة بدقة، حيث حددت مواعيد محددة لكل طفل لتقديم الرعاية اللازمة بعد تقييم كل طفل وتشخيص مشكلته، والبدء في مساعدته على التكلم بشكل سليم وتأهيله نفسياً.
تقول الدحدوح: "التنمر ينعكس سلباً على الأطفال ويدمر نفسيتهم، وهذه المبادرة جهد شخص مني لتخفيف الآثار النفسية للحرب عليهم".
وتضيف: "توجهتُ للكثير من المؤسسات لدعم المبادرة، ولكنهم رفضوا بدعوى أنهم بصدد تنفيذ نشاطات الدعم النفسي الترفيهي للأطفال"،
وتؤكد أن "علاج النطق أكثر أهمية من الدعم النفسي في هذه الظروف؛ لأنه يعالج جذور المشكلة ويساهم في بناء الثقة بالنفس لدى الأطفال".
وتُوجِّه رسالةً إلى الأهالي بضرورة الاعتناء بأطفالهم، وعدم تركهم عرضة للتنمر بسبب التأتأة ومشاكل النطق، بل الواجب احتضانهم ودعمهم والمباشرة الفورية بعلاج مشاكل النطق والكلام لديهم.