في غرفة "تغسيل الموتى" التابعة لجمعية "قيراطان" الخيرية، بمستشفى غزة الأوروبي، شرقي مدينة خانيونس جنوبي قطاع غزة، يبحث "إبراهيم إصليح" بين الرفوف علَّه يجد قطعةَ "كفنٍ" لِمُبَاشَرَة عمله "اليومي!" في تغسيل الشهداء وتكفينهم؛ تمهيداً لدفنهم ومواراتهم الثرى، ولكنه لم يجد سوى بضعة "أكياس نايلون طويلة" دخلت قبل أشهر في شاحنات "المساعدات الإنسانية"، ومكتوبٌ عليه "كفن أبيض فاخر!"؛ تعبيراً عن تعاطف الدول مع قطاع غزة الذي يُرزح تحت إبادةٍ جماعيةٍ لم يُشْهَد لها مثيلٌ في التاريخ الإنساني الحديث، وتطهيرٍ عرقيٍّ مكتمل الأركان منذ قرابة 399 يوماً، في الحرب العدوانية التي تشنها قوات الاحتلال "الإسرائيلي" منذ السابع من أكتوبر/تشرين أول للعام 2023، بدعمٍ أمريكيٍّ وغربيٍّ مُطلَق.
يقول "إصليح" لمراسل "شمس نيوز"، إن "هناك شُحَّاً كبيراً في الأكفان مقارنةً بالأعداد الكبيرة للشهداء يومياً، ونقصاً في المواد اللازمة لتكريم الموتى والشهداء، سيما في ظل إغلاق المعابر، بسبب استمرار الحرب".
أما زميله "جمال إصليح" الذي يعمل بجانبه في المغسلة ذاتها، فوصف الوضع في غزة بأنه غير مسبوق، وتساءل: "أين العرب والمسلمون مما يحدث في غزة؟ ألهذا الحد وصل الهوان فيكم؟ غزة تباد ولا يوجد فيها حتى أكفان لتكفين الشهداء!".
بالقرب من "المغسلة"، يجلس عدد من ذوي الشهداء، ينتظرون انتهاء مراسم غسل أبنائهم وتكفينهم بـ"البطانيات"، يقول "إبراهيم" وهو والد شهيد ارتقى في قصف "إسرائيلي" شرقي مدينة رفح، بعد أن التقط أنفاسه وكفكف دموعه الجارية كالنهر، بكمي كفيه: "الحمد لله الذي اصطفى ابني شهيداً، لله ما أخذ وله ما أعطى وأنا راضٍ بقضاء الله وقدره"، مضيفاً: "هذا العدو الإسرائيلي الظالم لا يزال يُوغل في دمنا ويرتكب المجازر بحقنا أمام مرأى العالم الظالم ومسمعه، ونحن كل يوم نودع أعداداً كبيرةً من الشهداء جُلُّهُم من الأطفال الصغار، ووصل الحال بنا لأن نناشد هذا العالم الظالم لإدخال الأكفان (..)".
ويتابع: "حتى الأكفان أصبحت مفقودة في غزة!، أين النخوة العربية؟ وأين ملة الإسلام؟ وأين حقوق الإنسان؟ هل ماتت الإنسانية في قلوب العالم؟ هل اعتاد العالم مشهد قتلنا وذبحنا".
لمتابعة آخر المستجدات الميدانية والسياسية للحرب على غزة اشترك بقناة شمس نيوز على منصة تيلجرام
ومع نقص الأكفان في غزة، دقَّت جمعية "قيراطان" الخيرية ناقوس الخطر الشديد، مُنَاشِدةً كل "مسلم حر" بضرورة إدخال الأكفان والمواد اللازمة لتكريم الموتى والشهداء.
وقال مدير جمعية "قيراطان"، أحمد أبو عيد، "إن عدداً من المغاسل التابعة للجمعية نفدت منها الأكفان بشكل كامل، وباقي المغاسل على وشك النفاد".
وأضاف "أبو عيد" لـ"شمس نيوز"، أن الأكفان المتوفرة في قطاع غزة، تكفي لأسبوعٍ واحد فقط، في ظل عدد الشهداء المرتفع جداً، "فعندما يرتكب الاحتلال مجازر، تكون حصيلة بعضها أكثر من 50 شهيداً، وبسبب العجز ونقص المعدات، نضطر لوضع أكثر من شهيد في نفس الكفن!".
وأشار إلى أن الجمعية تسعى جاهدةً لتأمين الأكفان والمعدات اللازمة، مُنبِّهاً إلى أنه "في حال عدم توفر الأكفان، نلجأ لاستخدام البطانيات كبديل قهري، وهو أمر كارثي، وحينها نستطيع أن نقول إن على غزة السلام، فالوضع أصبح مأساوياً بشكل غير مسبوق".
ووجَّه "أبو عيد" رسالةً عاجلةً للدول العربية والإسلامية، "رجو أن تنظروا إلى إخوانكم في غزة بعين الرحمة، حيث لا توجد أكفان في مغاسل الجمعية لتكفين الموتى، وهذا الوضع الكارثي لم نشهده منذ زمن النبي صلى الله عليه وسلم".
ولفت إلى أن المغسلين يعملون بشكل تطوعيٍّ، ولا يتقاضون أي راتب، فهم "يبتغون الأجر والثواب من الله تعالى"، مٌبيِّناً "نعمل في ظروف قاسية جداً، ونداوم من الساعة السادسة صباحاً ويمتد عملنا في بعض الأحيان إلى الثانية بعد منتصف الليل، حسب عدد الشهداء والمجازر التي يرتكبها الاحتلال، ونبذل جهوداً كبيرة رغم نقص الإمكانات: مثل المقصات، وأدوات التنظيف والتعقيم، وحتى الطعام والشراب للمغسلين".
وتأسست جمعية "قيراطان" الخيرية عام 2015 كمشروع خيري لتغسيل الموتى في المنازل، ثم توسعت في تقديم خدماتها عبر إنشاء مغاسل في جميع مستشفيات قطاع غزة.
وأكد "أبو عيد" أن الجمعية تعمل بشكل مستقل، ولا تتبع أي جهة، وتوفر خدمات تغسيل وتكفين الموتى مجاناً، بجهود فريق متطوع يسعى فقط لخدمة لإكرام الموتى والشهداء، من خلال تجهيزهم وفق الشريعة الإسلامية.
وحسب آخر معطيات نشرتها وزارة الصحة الفلسطينية بغزة، ارتفع عدد شهداء الحرب "الإسرائيلية" في قطاع غزة، إلى 43 ألفاً و469 شهيداً، بالإضافة لـ 102 ألفاً و561 مصاباً بجروح متفاوتة؛ بينها خطيرة وخطيرة جداً، وجُلّهم من الأطفال والنساء.
ويُواصل الاحتلال الإسرائيلي حرب الإبادة الجماعية، في قطاع غزة، متزامناً مع استهداف خيام النازحين ومراكز الإيواء، وعمليات نسف المباني السكنية على رؤوس ساكنيها، وتدمير البنى التحتية، وعمليات قصف وتطهير عرقي وارتكاب مجازر يومية من شمالي القطاع حتى جنوبه، كما يُواصل حصار غزة وإغلاق المعابر والمنافذ بشكل كامل.