بعد تصعيد اللحظات الأخيرة، مضى رئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو للموافقة على اتفاق وقف إطلاق النار في لبنان على أساس قرار مجلس الأمن الدولي 1701 لعام 2006، وتطرح أسئلة كثيرة حول حسابات الربح والخسارة بعد أكثر من عام من الحرب ومدى صمود الاتفاق.
دخل وقف إطلاق النار حيز التطبيق فجر الأربعاء، واعتبر نتنياهو في تبريره للاتفاق أن إسرائيل أعادت حزب الله عقودا إلى الوراء "بعد القضاء على كل قادته ومعظم بنيته التحتية"، وأن الاتفاق سيعزز الأمن في مستوطنات الشمال، ويكفل التفرغ لمواجهة "العدو الأول إيران"، مؤكدا أنه سيرد بقوة على أي محاولة لحزب الله لإعادة التسلح.
وحاول نتنياهو في خطابه تصوير الاتفاق مع حزب الله على أنه "وقف إطلاق نار مؤقت سيتم اختباره"، كما أرسل رسالة مفادها أنه يكسب الوقت حتى عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض والذي من المفترض أن يمنحه حرية عمل أكبر، وفق صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية.
وصادق الكابينت (مجلس الوزراء الإسرائيلي المصغر) على الاتفاق، الذي توسطت فيه الولايات المتحدة وفرنسا، لكنه لقي معارضة من وزير ما يُسمى بالأمن القومي للاحتلال إيتمار بن غفير، ومن رؤساء المستوطنات الشمالية ومقاتلي جيش الاحتياط، الذين طالبوا بعدم التوقيع على أي اتفاق لا يتضمن منطقة عازلة معقمة على بعد عدة كيلومترات شمال الحدود، واعتبروا -في بيان- أن "الاتفاق الذي يعيد حزب الله إلى الحدود بالقرب من منازلنا هو إهمال إجرامي سيظل في الأذهان إلى الأبد".
وعلى الصعيد اللبناني، أكد رئيس مجلس النوب اللبناني نبيه بري "أن لبنان تمكن من إحباط مفاعيل العدوان الإسرائيلي"، وناشد كل الطوائف والقوى السياسية للحفاظ على لبنان أكثر قوة ووحدة.
العودة إلى اتفاق قديم
وفقا لبنود الاتفاق الـ13، فإن إسرائيل ستنسحب من جنوب لبنان (جنوب الخط الأزرق) في غضون 60 يوما من دخوله حيز التنفيذ، ليحل محلها الجيش اللبناني وقوات الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان (يونيفيل)، التي ستعمل على إزالة البنية التحتية التابعة لحزب الله حتى نهر الليطاني ويشير أيضا إلى أن:
- يلتزم حزب الله وجميع الجماعات المسلحة الأخرى في الأراضي اللبنانية بعدم تنفيذ أي عمل هجومي ضد إسرائيل، وفي المقابل، لن تقوم إسرائيل بأي عمل عسكري هجومي ضد أهداف في لبنان، سواء على الأرض أو في الجو أو في البحر.
- تعترف إسرائيل ولبنان بأهمية قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 1701.
- هذه الالتزامات لا تلغي حق إسرائيل أو لبنان في ممارسة حقهما الأصيل في الدفاع عن النفس ضمن أطر المواثيق الدولية.
- ستكون قوات الأمن والجيش اللبناني الرسميتين هي الجهات المسلحة الوحيدة المسموح لها بحمل السلاح أو استخدام القوات في جنوب لبنان.
- يتم الإشراف على بيع الأسلحة أو توريدها أو إنتاجها أو المواد ذات الصلة بالأسلحة في لبنان من قبل الحكومة اللبنانية.
- سيتم تفكيك جميع المنشآت غير المصرح بها المعنية بإنتاج الأسلحة والمواد ذات الصلة بالأسلحة.
- سيتم تفكيك جميع البُنى التحتية والمواقع العسكرية، ومصادرة جميع الأسلحة غير المصرح بها التي لا تتوافق مع هذه الالتزامات.
- سيتم إنشاء لجنة تحظى بموافقة كل من إسرائيل ولبنان للإشراف والمساعدة على ضمان تنفيذ هذه الالتزامات.
- ستقدم إسرائيل ولبنان تقارير عن أي انتهاكات محتملة لهذه الالتزامات إلى اللجنة وإلى قوات الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان (اليونيفيل).
- سينشر لبنان قوات الأمن الرسمية وقوات الجيش على طول جميع الحدود ونقاط العبور والخط المحدد للمنطقة الجنوبية كما هو موضح في خطة الانتشار.
- ستعمل الولايات المتحدة على مفاوضات غير مباشرة بين إسرائيل ولبنان للوصول إلى حدود برية معترف بها.
ولا يشير الاتفاق، إلى إنشاء منطقة عازلة في الجنوب -التي كانت ضمن المطالب الأولى لإسرائيل-، وسيُسمح لسكان القرى في جنوب البلاد بالعودة إلى قراهم وبيوتهم. كما ينص الاتفاق على تشكيل لجنة دولية برئاسة الولايات المتحدة وفرنسا، لتتولى مراقبة تطبيق الامتثال للاتفاق الذي سيستند إلى قرار مجلس الأمن رقم 1701.
وأشارت صحيفة "يديعوت أحرونوت"، إلى أن الاتفاق لا يتضمن أيضا مسألة حرية "عمل" الجيش الإسرائيلي في لبنان التي كان يصر عليها الجانب الإسرائيلي.
هل حققت إسرائيل أهدافها؟
كانت الأهداف المعلنة لإسرائيل التي سعت لتحقيقها بالحرب وقبلها بعمليات التفجير الواسعة واغتيال كبار قادة حزب الله، تتمثل في تأمين المستوطنات الشمالية واحتلال شريط حدودي يتراوح بين 3 و10 كيلومترات ودفع قوات الحزب إلى ما وراء نهر الليطاني، وتدمير قدراته القتالية ونزع سلاحه وشل قدرته على ضرب المستوطنات، وكهدف مضمر القضاء على الحزب كتهديد إستراتيجي، وتفكيك بيئته الحاضنة، وتقويض حضوره السياسي في لبنان وضمن "محور المقاومة".
وتشي تصريحات بنيامين نتنياهو المتكررة -قبل التوصل إلى الاتفاق- أنه كان من أنصار إطالة أمد الحرب، وقد رفض في 21 سبتمبر/أيلول الماضي الموافقة على هدنة، لكن متغيرات ميدانية في أغلبها أدت إلى تغير موقفه، من أهمها:
- لم يفلح الجيش الإسرائيلي في تحقيق إنجاز عسكري حاسم بعد.
- لم يستطع الجيش الإسرائيلي تأمين المستوطنات الشمالية وإعادة سكانها.
- لم يتم تقويض القدرات العسكرية لحزب الله بشكل كامل.
- استمر حزب الله في قصف عمق إسرائيل وتوسعها وتكثفها بشكل مطرد (بينها 350 صاروخا ومسيرة في ساعات).
- لم تفض المناورات البرية في تحقيق اختراق سريع أو السيطرة الدائمة على الأرض، مع استمرار الخسائر اليومية في العديد والعتاد.
- تجاوزت الخسائر البشرية والمادية تلك التي نتجت عن حرب الـ33 يوما في يوليو/تموز 2006.
- لم يؤثر اغتيال القيادات السياسية والعسكرية -وبينهم الأمين العام حسن نصر الله- في الأداء الميداني لحزب الله كما كان يعول عليه.
- لم تستطع إسرائيل تفكيك البيئة الحاضنة لحزب الله أو إسقاط دوره في المشهد السياسي.
- لم تعد هناك ضمانات بأن طول الحرب يمكن أن يؤدي إلى انهيار الحزب.
- تعرض نتنياهو لضغوط سياسية داخلية وخارجية (مذكرة الاعتقال من الجنائية الدولية).
- ضغطت الولايات المتحدة الأميركية لإبرام اتفاق وهددت بالانسحاب من الوساطة.
- الجيش الإسرائيلي بات منهكا وغير قادر على تحقيق الأهداف الكبرى للحرب.
ويشير محللون إلى أن عودة إسرائيل إلى الصيغة نفسها من القرار 1701 الصادر عام 2006، مع تغييرات ليست جوهرية لا يمنحها أي نصر عسكري، وإن كان يحقق لها ضمانات أمنية في صورة تطبيقه، ويخفف الضغوط عن جيشها المنهك، ويدفع بحزب الله نحو 10 كيلومترات إلى ما وراء الليطاني، كما يحقق الهدف الأهم وهو الفصل بين جبهتي غزة ولبنان.
ويمنح الاتفاق الجيش الإسرائيلي أيضا مهلة لالتقاط الأنفاس، وربما تحويل جهده نحو جبهة غزة والضغط على سوريا عسكريا، وإلى ما سماه نتنياهو "العدو الأول"، في إشارة إلى إيران.
ومن خلال الذهاب إلى الاتفاق، تجاوز نتنياهو المبدأ الذي يقول إن "كل جيش لا ينتصر ولا يحقق أهدافه فهو مهزوم وكل مقاومة لا تخسر فهي منتصرة"، فهو يرى أن حزب الله بات ضعيفا عسكريا، ولم يعد قادرا على تشكيل تهديد حقيقي بعد دفعه إلى ما وراء نهر الليطاني.
كما أنه يعول على ضغوط سياسية لبنانية ودولية لسحب سلاح الحزب، وعلى حرية العمل في سوريا -لم يتم التطرق إليها في الاتفاق- لمنع وصول السلاح إلى الحزب مستقبلا، كما يرى أنه فكك بالاتفاق جزئيا ما يعرف "بوحدة الساحات"، وأبعد حزب الله عمليا عن أي دور مساند لإيران في أي حرب قد تندلع.
حزب الله والمستقبل
تشير المصادر المقربة من حزب الله إلى أن الاتفاق فُرض بالصمود في الميدان، وقد جاء نسخة مكررة عما انتهت إليه حرب يوليو/تموز 2006، عبر القرار 1701 الصادر عن مجلس الأمن، والذي كان قد وافق عليه الحزب، كما تم إجهاض محاولة إسرائيل لفرض تطبيق القرار 1559، الذي ينص على تجريد الحزب من سلاحه.
وتعتبر المصادر أن بنيامين نتنياهو نزل عن الشجرة، بتخفيض سقف أهدافه من مساع "لإعادة ترتيب الشرق الأوسط"، والقضاء على حزب الله وتغيير الواقع السياسي في لبنان إلى العودة إلى تطبيق ذلك القرار الذي نتج عن حرب 2006.
ووفقا لتلك القراءات في مضمون الاتفاق، لم تتمكّن إسرائيل من إخضاع حزب الله، وعجزت عن تحقيق أهدافها رغم التدمير والقتل وسلسلة الجرائم التي ارتكبها.
كما تعتقد تلك الأطراف المقربة من الحزب أنه حافظ على وتيرة الردع نفسها، ووسع عملياته في العمق الإسرائيلي بما تجاوز حرب 2006، واستعمل تكتيكات وأسلحة جديدة فرضت على إسرائيل العودة إلى المفاوضات بالحد الأدنى من المطالب، حيث يخلو الاتفاق مما قد ينتهك سيادة لبنان أو يؤثر بشكل جذري على دور حزب الله.
في المقابل، يعتقد محللون أن الحزب رغم ما أبداه من مقاومة وقدرة على الصمود فإنه عمليا فقد الكثير من عناصر قوته، وقيادته التاريخية، بدءا بأمينه العام حسن نصر الله، وأبرز قادته السياسيين والعسكريين، وجزءا كبيرا من سلاحه، يصعب تعويضه، مع الحصار الذي ستفرضه إسرائيل على المنافذ خصوصا في سوريا.
كما أن القرار 1701- بصيغته الجديدة- سيمنع الحزب من العودة إلى مواقعه في الجنوب وبناء قوته العسكرية هناك، وقد تؤدي سيطرة الجيش اللبناني والتضييقات المالية الممكنة على الحزب هناك، وإعادة الإعمار التي ستتكفل بها الدولة -إن حصلت- إلى واقع جديد يجعل البيئة الحاضنة للحزب أقل ارتباطا.
ويشير محللون إلى أن الحزب -الذي لم يخرج مهزوما في النهاية وفق تقديرهم- فقد عوامل قوة وأوراقا كثيرة حققها طوال عقود خصوصا وبعد حرب 2006 في المشهد السياسي في لبنان، وهو مع ذلك سيحافظ على دوره السياسي في لبنان، دون أن يشكل مستقبلا "بيضة القبان" في ذلك المشهد، وسيعمل بدرجة أولى إلى إعادة بناء نفسه.
كما يعتقد محللون أن إيران، التي تبحث عن تهدئة مع الولايات المتحدة والغرب وإعادة التفاوض حول الملف النووي، لن تتمكن من القيام بنفس الدور الذي كانت تلعبه مع حزب الله وضمن "محور المقاومة" بشكل عام، بما قد يقلص أيضا من نفوذ الحزب.
وبقطع النظر عن حسابات الربح والخسارة، يبدو صمود الاتفاق رهنا بفترة "الاختبار" خلال الشهرين المقبلين وبحسابات رئيس نتنياهو، الذي تحاصره أزمات داخلية وخارجية (قرار الاعتقال من الجنائية الدولية) ورهاناته على ضوء أخضر من الرئيس الأميركي لمواصلة "سياسة تغيير الشرق الأوسط"، قبل أن تعصف الأزمات بمستقبله السياسي.