كانت عقاربُ الساعةِ تشير إلى الخامسة وعشرين دقيقة تقريباً، حين دوى صوت انفجار عنيف من الطيران المروحي الإسرائيلي زلزَل المكان وبدَّد ظلمةَ الليل مُحِيلاً سَاكنتَهُ المُوحِشة إلى جحيمٍ من اللهبِ الأحمر التهمت المكان بأكمله وسط تصاعدٍ مكثَّفٍ لألسنة الدخان السوداء التي غَشِيت السماءَ.. حينها ركضَ عشراتُ النازحين بتخبطٍ ودون وعيٍ، قَبل أن يتبع الانفجارُ الأول آخرَ حربياً أشدَّ منه، دوى صداه في منطقة اسطبل الخيل بشارع (5) في منطقة مواصي خانيونس، وهزَّ أرجاء المنطقة التي زعم جيش الاحتلال أكثر من مرة أنها مناطق آمنة.
وقتها تبدَّدت صرخاتُ الأطفال التي كانت قد اختلطت بعويل النساء وآهات الرجال، للأبد؛ مُعلِنَةً استشهادهم جميعاً؛ ليتحول المخيم من مكانٍ كان يأوي النازحين، إلى حفرةٍ عميقةٍ، أشبه بالمقبرة الجماعية، امتلأت بعشرات الجثث المتفحمة والأجساد الممزقة والأشلاء المتناثرة، في مجزرة "بشعة" يندى لها جبين الإنسانية، في الحرب العدوانية المتواصلة التي تشنها "إسرائيل" على قطاع غزة منذ أكثر من عام وشهرين، والتي يُمارس فيها جرائم حرب مكتملة الأركان وتطهير عرقي مُنظَّم وإبادة جماعية لم يُشهد لها مثيل في التاريخ الحديث.
سريعاً، وصلت سيارات الإسعاف والدفاع المدني لإخماد الحريق الناجم، وهالَهم مشهد الدمار المرعب، وجمعوا ما استطاعوا من أشلاء ووضعوها في "دلو مكسور"، وأكياس طحين فارغة، يقول أحد رجال الدفاع المدني: "هذا مشهد صعب جداً، ويصعبُ وصفه، جثث الأطفال مفحمة وممزقة، وهذه جريمة تقشعر له الأبدان".
على أنقاض خيمته، يجلس رجلٌ ستينيٌّ ناجٍ من المجزرة، يبكي بحرقة، واضعاً كفيه على وجهه من هول الصدمة، حيث إنه لا يعلم مصير أسرته الذين نُقلتهم الطواقم الطبية إلى المستشفى هل هم من الشهداء أم من الجرحى، يقول: “بعد أن فرغتُ من صلاة المغرب في إحدى المصليات القريبة، إذ بصوت انفجار كبير هزَّ المكان وتبعه حريق هائل أشعل الخيام، ومسح المخيم عن بِكرَةِ أبيه”.
أما الطفلة جوليا الأسطل، التي نجت للمرة الثانية من قصف الاحتلال، ونُقِلت إلى مجمع ناصر الطبي لتطبيب جراحها وتلقى الرعاية الصحية جراء إصابتها في المجزرة، فتبكي وتنادي على أمها التي استشهدت برفقة أشقائها قبل 9 شهور بقصف إسرائيلي، في حين سافر والدها برفقة شقيقها الذي يتلقى العلاج بعدما أصيب بالقصف الذي أودى بحياة أمه وأشقائه.
واستشهد 21 فلسطينياً، بينهم أم وطفلتاها، و5 أطفال على الأقل، مساء أمس الأربعاء، عقب قصف طيران الاحتلال، مخيماً للنازحين في منطقة مواصي خانيونس، جنوبي قطاع غزة،
وأفاد شهود عيان بأن طيران الاحتلال الحربي استهدف مخيماً للنازحين ومخازن مواد غذائية يبعد مئات الأمتار ما أدى لاشتعال النيران بالمكان، وارتقاء شهداء وإصابة آخرين، "نقلوا جميعاً إلى مستشفى ناصر الطبي".
كما استهدف طيران الاحتلال الحربي أيضاً أرضاً زراعية، بصاروخين، ما أدى إلى اشتعال النيران في أكثر من 10 غرف من الصفيح بالمكان المستهدف وخلَّف عشرات الشهداء والجرحى.
بعد المجزرة المروعة، أشرقت شمس اليوم الخميس (5 نوفمبر 2024)، مُكتسيةً ثَوب الحِداد، وبدأ الأهالي المكلومون في تشييع شهدائهم، من مستشفى ناصر الطبي بالمدينة الحزينة.
بدموعٍ جاريةٍ كالنهر، وقلبٍ يفيضُ بلوعة الفراق وألم الفقد، يُمسك "طه الأسطل"، بين يديه، ما تَبقى من جسد الطفلة الرضيعة "شام علي شراب" لم يتجاوز عمرها عاماً واحداً، واغتال الاحتلال طفولتها، واختلطت أشلاؤها بأشلاء عشرات الشهداء الذين ارتقوا في مجزرة بشعة ارتكبتها طائرات الاحتلال، ليلة أمس الأربعاء، بقصفها مخيماً للنازحين في منطقة المواصي غربي مدينة خانيونس جنوبي قطاع غزة.
يقول الأسطل: "هذا نصف طفلة، وليست طفلةً كاملةً، اغتالها الاحتلال وهي في حضن أمه.. هل يوجد أصعب من هذا الشعور؟”.
وبُحرقةٍ شديدة، أضاف: “الأهداف الإسرائيلية عبارة عن أطفال ومدنيين، انظروا هاهي جثة طفلة رضيعة مزقتها الصواريخ الحربية، وهناك أشلاء مدنيين آخرين تبخرت ولا يُوجد لها أثر”.
واستنكر حجم الخذلان والصمت والتواطؤ العربي والدولي أمام الفظائع والجرائم والإبادة التي يرتكبها الاحتلال في غزة: “ليس لنا إلا الله عزوجل، ونقول للعالم أجمع ستسألون أمام الله، وحسبنا الله ونعم الوكيل”.
لمتابعة آخر المستجدات الميدانية والسياسية للحرب على غزة اشترك بقناة شمس نيوز على منصة تيلجرام
على مقربةٍ منه، تتوشَّح عائلة الشهيدة شيماء المجايدة، هي الأخرى بالحزن والسواد، يقول أحد أقربائها: "شيماء حامل في الشهر السابع، كانت تجلس في خيمتها تُجهز المعكرونة لأطفالها، وفجأة دوى انفجار عنيف هز المكان، وتناثرت الشظايا لتصيب شيماء مباشرة، وتقتلها مباشرةً".
وبعد أن تم نقلها إلى المستشفى حاول الأطباء إنقاذ جنينها من خلال عملية قيصرية، لكن الجنين أيضاً استشهد قبل أن يُبصر النور، وكُفِّنَا معاً في كفن واحد، حسبما أضاف.
وقالت وزارة الصحة في غزة، إن الاحتلال ارتكب 5 مجازر، وصل منها للمستشفيات 48 شهيداً، و201 إصابة خلال الـ 24 ساعة الماضية.
وأعلنت وزارة الصحة، ارتفاع حصيلة العدوان الإسرائيلي على غزة إلى 44,580 شهيداً، و105,739 إصابة منذ السابع من أكتوبر 2023م.