يستلقي "جمال"، على أحد الأسرة في مستشفى غزة الأوروبي بمدينة خانيونس جنوبي قطاع غزة، ليتلقى فحوصات طبية مكثفة، بعد أن نجا من جحيمٍ حقيقيٍّ تعرض له في سجون الاحتلال الإسرائيلي، وتسبب في تلف أنسجة قدمه بعد أن غزتها الثقوب الكبيرة والتقرحات من كل حدب وصوب؛ نتيجة العذاب الشديد والإهمال الطبي المتعمد، وأصبح وضعه الصحي والنفسي في حالة مزرية للغاية، بعد إقدام قوات الاحتلال على اعتقاله من مدينة بيت لاهيا شمالي قطاع غزة، والتنكيل به، أثناء حصارها للمدينة، في حرب الإبادة الجماعية التي تشنها "إسرائيل" على قطاع غزة لليوم 453 على التوالي.
لم يكن "جمال العبد عوض" البالغ من العمر (60 عاماً)، يعلم أنه سيبدأ رحلة عذابٍ قاسية جديدة، ستستمر أكثر من 45 يوماً، وسيذوق فيها سوء العذاب وجام غصب الاحتلال، وستضاف إلى أهوال الإبادة الجماعية المروعة التي شاهدها شمال قطاع غزة.. الحكاية المؤلمة بدأت مطلع شهر نوفمبر 2024م، حيث أطلقت قوات الاحتلال حصارها بشكل كامل على شمال قطاع غزة، وحُوصر "جمال" مع عائلته ومئات المواطنين الذين بقوا صامدين في أرضهم، رغم القصف والدمار واشتداد وطأة الحرب بشكل "جنوني".
أخذ الرجل الستيني نفساً عميقاً، وحاول إخفاء صوت أَنينه ووجعه، ليرجع بشريط ذاكرته إلى ذلك اليوم المرعب، الذي حوَّل حياته إلى كابوسٍ مُروِّع، وقال لمراسل "شمس نيوز": "حَاصَرَنا جنود الاحتلال من كل مكان، وبدأوا -عبر مكبرات الصوت وسماعات الطائرات المُسيَّرة "الكواد كابتر"، بالنداء علينا، وتهديدنا بتفجير المنطقة كلها إذا لم نخرج، وفي الوقت ذاته كانت القذائف المدفعية تتساقط علينا كالمطر، وتُزلزل الأرض من تحت أقدامنا".
بعد أن ارتكبت قوات الاحتلال مجزرة بشعة بحق سكان المنطقة، فصل الجنود بين ما تبقى من الرجال والنساء، واقتادوا الفئة الأولى مكبلي الأيدي إلى مدرسة الفالوجا شمالي غزة، بينما أجبروا النساء والأطفال على النزوح القسري جنوباً.
في مدرسة الفالوجا، بدأت فصول الجحيم الحقيقي، تلك اللحظات بالذات يتذكرها الستيني "عوض" برعب، فيقول: "أجبرنا جنود الاحتلال على خلع ملابسنا وسط البرد القارس، وشدوا الرباط الذي يُكبِّل أيدينا حتى كأنَّ الدماء أوشك على الانفجار من قوة الشد، وأعصبوا أعيننا، وانهالوا علينا بالضرب المبرح بلا هوادة، ثم اقتادونا إلى مكان مجهول"، عرف فيما بعد أنه سجن "البركسات".
اجتمعت على المعتقلين في ذلك السجن، رباعية "الجوع، والبرد، والضرب، والشتائم"، وقبعوا بين زوايا جدرانٍ تلسع أجسادهم برداً وزمهريراً، وجلسوا على أرضيةٍ من حجارةٍ صغيرةٍ حادةٍ متكومة تُسبِّبُ جروحاً تغرز أنيابها في أقدامهم، وذاقوا أبشع أنواع العذاب والمعاناة، حيث كانت سياط السجان وعصيه التي تنزل متتالية عليهم تحطم العظام وتكوي الجلود.
مع ساعات الصباح الأولى وتحديداً آذان الفجر، كل يوم، يقتحم جنود الاحتلال الزنزانة وينهالون على المعتقلين بالضرب المبرح ويسحبون الفراش من تحتهم، ويتركوهم في البرد الشديد لساعات طويلة (حتى الساعة 11 قبل منتصف الليل)، ويعيدون الكَرَّة يومياً على مدار 45 يوماً.
كان سجن "البركسات"، وفقاً لوصف الستيني "عوض"، مسلخاً بشرياً حقيقياً، ذاق فيه صنوف العذاب كلها، ضرباً بالعصي، وسلخاً بالسياط، وإثر هذا التعذيب الشديد؛ تدهورت صحته، وأصيبت قدمه بتقرحات وثقوب عميقة، حيث تهالكت أنسجتها بشكل خطر للغاية، يقول: "كان المحققون يتفننون في تعذيبنا ونحن عراة، ويسلخون جلودنا بالسياط، ويتركون الأمراض تنخر فينا نخراً، ويمنعون عنا أدوات النظافة وأدنى مقومات الحياة، حتى أصبحت قدمي متعفنة وامتلأت بجروح وثقوب كبيرة، إلى جانب الإهمال الطبي وحرماننا من العلاج”.
ويتابع: “كنتُ أكرر للمحقق الإسرائيلي أنني مواطن فلسطيني بسيط لا أنتمي لأي فصيل أو تنظيم فلسطيني سواء كان سياسياً أم مسلحاً، بل أنتمي فقط إلى وطني وقضيتي فقط، وبعد 45 يوماً من الشبح والتعذيب، تبيَّنوا حقيقة ذلك، فقرروا الإفراج عني مع مجموعة من المعتقلين، علماً بأننا لا نعلم شيئاً عن مصير أسرنا وأبنائنا”.
صمت “عوض”، هنيهة من الزمن، قبل أن يتساءل بصوتٍ متحشرجٍ تزامن مع تساقط قطرات من الدموع من محجريه: “ماذا فعلنا لهم ليرتكبوا فينا هذه الإبادة، ويعاملونا بلا إنسانية بهذه الطريقة الإجرامية والوحشية؟”.
ومنذ السابع من أكتوبر 2023م، يُواصل جيش الاحتلال الإسرائيلي عدوانه على قطاع غزة ويفرض حصاراً جوياً، وبحرياً، وبرياً، ويرتكب إبادة جماعية وتطهيراً عرقياً لم يُشهد له مثيل في التاريخ الحديث، واعتقل عشرات الآلاف من الفلسطينيين في ظروف اعتقالية مروعة وكارثية وخالية من الإنسانية، بينهم نساء وأطفال وأطباء لا يُعرف مصيرهم.