داخل أروقة مستشفى ناصر الطبي بمدينة خانيونس جنوبي قطاع غزة، تجلس الطفلة "رغد" على كرسي متحرك، ممسكةً بيديها ورقةً مكتوب عليها: "من حقي العلاج"، ومعها والدتها التي تحاول التخفيف عن آلام ابنتها من خلال الكلمات التحفيزية وبث الأمل الذي سرقته الحرب الإسرائيلية المتواصلة على قطاع غزة منذ أكثر من 463 يوماً على التوالي.
أصيبت "رغد الفرا" (14عاماً)، بجراح خطرة، أفقدتها القدرة على المشي؛ إثر قصف "إسرائيلي" من طيران الاحتلال الحربي، لمنزلها في منطقة الشيخ ناصر وسط مدينة خانيونس.
أجمل صوت
عُرِفت الطفلة "الفرا" بتفوقها الباهر في مدرستها "مدرسة حيفا"، إذ كانت من أوائل الصف الثامن، وتشارك في الإذاعة المدرسية باستمرار؛ نظراً لحفظها كثيراً من الأبيات الشعرية وأسلوبها المتميز في الإلقاء، وخلال حديثنا معها، وجَّهت أبياتاً نثرية خصصتها لأمها تعبيراً عن شكرها لعطائها ودعمها ومساندتها لها: "توفيقي يكون بدعائها؛ أمي هبة من الرحمن، يا بسمة ثغري وفرحة عيني وباقة زهري وقصيدة شعري، أروي لك حباً وأقبل يديك عشقاً، سامحيني يا نبع الحنان، فأنا عاجزة عن الكلام".
ولكن موهبتها لم تقتصر على الشعر فقط، فقد تألقت "الفرا" أيضاً بصوتها الجميل، الذي كان محط إعجاب كل من استمع إليها، وشاركت في العديد من المسابقات والأنشطة اللامنهجية التي نظمتها مديرية التربية والتعليم، فكانت أحد نجوم تلك المسابقات وفازت بالمركز الثاني في مسابقة "أجمل صوت" على مستوى المديرية، ما جعلها تحظى بتكريم كبير في احتفال رسمي، كان ذلك بمثابة تتويج لموهبتها الصوتية التي كانت تلامس قلب كل من يستمع إليها.
تقول بصوت تخنقه الدموع، لمراسل "شمس نيوز": "كنت أحلم أن أصبح شاعرة وطبيبة، لكن هذه الحرب حرمتني من الدراسة والتعليم، وبخَّرت طموحاتي، والآن، كل ما أتمناه أن أستعيد القدرة على الوقوف على قدميَّ والعودة إلى مدرستي".
نزوح لا ينتهي
قبل الإصابة، نزحت "رغد" وأسرتها، من مدينة خانيونس، إبان التوغل البري الأول لقوات الاحتلال في ديسمبر 2023م، ومكثت في مدينة رفح حتى مايو 2024م في خيمة صغيرة، بالكاد اتسعت لأفراد الأسرة الثمانية، في ظروف قاسية وصعبة، من شتاء قارس، وصيف لاهب، وبعد انسحاب قوات الاحتلال عادت العائلة لتجد منزلها مدمراً بشكل جزئي بليغ، وعلى الرغم من ذلك قام والدها باستصلاح بعض الغرف من خلال تنظيفها من الركام والرماد، وإغلاق الجدران والشبابيك المدمرة بما توفر من شوادر وستائر.
لكن رحلة النزوح لم تقف عند هذا الحد فحسب، فبعد شهر من العودة ألقى الاحتلال "مناشير" تهدد بالإخلاء الفوري من المنطقة، ما اضطر عائلة الفتاة "رغد" إلى النزوح من جديد، وهذه المرة إلى منطقة الأوروبي، ومكثت فيها قرابة ستة أيام، ثم بعد تصنيف منطقة "الشيخ ناصر" بأنها آمنة، عادت إلى منزلها من جديد.
لمتابعة آخر المستجدات الميدانية والسياسية للحرب على غزة اشترك بقناة شمس نيوز على منصة تيلجرام
صباح دامٍ بامتياز
في صباح يوم الاثنين (الموافق 22/07/2024)، استيقظت العائلة فَزِعَةً على أصوات الانفجارات المتتالية، وفي تمام السادسة والنصف، انقلبت الأمور رأساً على عقب، بعد استهداف مُسيَّرة تابعة للاحتلال منزلهم بشكل مباشر، وبدأت الأحزمة النارية تزلزل المنطقة زلزالاً، تمهيداً لتوغل بري "إسرائيلي" في منطقتي الشيخ ناصر وبني سهيلا؛ لتتلبَّد سماء ذلك اليوم المرعب بالدخان، ويسيطر الظلام الحالك على كل شيء، وتصاب هي بجراح خطرة، ويستشهد عدد من جيرانها.
هنا تدخلت والدتها، وقالت لمراسل "شمس نيوز"، بعد أن رجعت بشريط ذكرياتها إلى ذلك اليوم المؤلم: "كان القصف شديداً، لدرجة أن جارتنا طارت من بيتها إلى سطح بيتي واستشهدت هناك من قوة الانفجار، وأنا شعرتُ أنني أصبحتُ في باطن الأرض، وبدأتُ بالحديث مع نفسي هل أنا فعلاً في باطن الأرض؟ أم صعدت روحي للسماء؟، ثم ما لبثتُ أن رأيتُ بصيص نور صغير ناتج عن شقشقة الصباح، اخترق ظلام الدخان، فأدركت حينها أنني ما زلت على قيد الحياة".
حينها، بدأت الأم بالصراخ بحثاً عن بناتها الخمس وابنها الوحيد، بالرغم من أن فمها كان مليئاً بالرماد والركام والحجارة، فرد عليها الجميع، ما عدا "جوان" التي فقدت صوتها مؤقتاً من هول الصدمة؛ لكنها هرعت إلى إحدى أخواتها، وكان ذلك مؤشراً على أنها بخير، أما "رغد" التي كانت فاقدة للوعي فلم تنبس ببنت شفة، لكنها سمعت صوت أنين خافت قادماً من الركن الآخر.
"بدأتُ النهوضَ من تحت الأنقاض، وبدأت أتحسس بيدي أنقاض الغرفة المظلمة، حتى غاصت يداي في رأس "رغد" التي غطاها الركام بشكل شبه كلي، وعندها علمتُ أنها مصابة، فصرختُ بأعلى صوتي؛ لإنقاذ ابنتي المصابة، بينما كنتُ أنا نفسي مصابة بشظايا الصاروخ في قدميَّ الاثنتين، وتمكنا من إخراجها من تحت الردم، وكان زوجي هو الآخر قد أصيب بحرق في قدمه، وتم نقلنا إلى المستشفى بواسطة سيارة الإسعاف"، تضيف والدة "الفرا".
ما إن وصلت "رغد" إلى المستشفى، حتى تفاجأت والدتها بوصول سيارة أخرى تقل مصابين من جيرانهم، بسبب إصابتهم في استهداف آخر، "تصاوبتوا في القصف الأول أم الثاني؟" قالتها جارتها المصابة، فسألتها والدة "رغد" على الفور: "هو في قصف تاني؟"، فأجابت: "قصفوا بيتكم مرة تانية بالحربي، وتزلزلت المنطقة بأكملها".
في تلك اللحظة بالذات، فقدت السيدة "الفرا" الإدراك وبدأت بالصراخ بلا وعي في ساحة المستشفى، وسألت جارتها المصابة: "بناتي استشهدن؟"؛ لتجيبها: "في اللحظة الأخيرة خرجت بناتك من البيت، وجميعهنَّ بخير، ولكن بيت جيرانكم النازحين من غزة قُصِف هو الآخر، واستشهد عدد من بناتهم فيما لازل عدد آخر تحت الركام".
آلامٌ بلا حدود!
أصيبت "رغد" بكسرين في قدميها، استدعى وضع بلاتين لها، وكسرين آخرين في ظهرها أثَّرا على قدرتها على الحركة والمشي، كما تم استئصال طحالها، وجزءٍ من رئتها الأولى، وحدوث نزيف حاد في الرئة الأخرى؛ لتمكث تحت أجهزة التنفس الاصطناعي داخل غرفة العناية المركزة مدة تزيد عن شهر كامل.
حالياً، تعيش عائلة الطفلة "رغد" في خيمة صغيرة بمنطقة مواصي خانيونس جنوبي قطاع غزة، في ظل وضع كارثي للغاية، كون المنطقة التي تكتظ بعشرات آلاف النازحين، تفتقر إلى أدنى سبل النظافة وتمتلئ بمياه الصرف الصحي والغبار، وهو ما يؤثر سلباً على صحتها في ظل ضعف حاد في مناعتها، بسبب استئصال الطحال، والتهابات الرئتين، جراء الاستهداف، إضافةً إلى انعدام قدرة ربِّ الأسرة على توفير الأدوية والغذاء المليئ بالبروتين والفيتامينات لطفلته؛ بسبب عدم توفرها من جهة، وارتفاع الأسعار من جهة أخرى.
وتطالب الطفلة "الفرا"، كما باقي أطفال غزة، بوقف الحرب الغاشمة، وتوفير المأوى والغذاء والأدوية، والعمل بشكل عاجل على السماح للمصابين بالسفر للعلاج في الخارج، قبل أن تتفاقم أوضاعهم الصحية.
جائحة إعاقات
وقال مدير مجمع الشفاء الطبي، محمد أبو سلمية،إن "عدد الجرحى من الذين بُترت أطرافهم السفلية والعلوية بلغ أكثر من 4 آلاف، جلّهم من الأطفال"، مضيفاً أنّ عدد من "يحتاج لإعادة تأهيل إثر إصابات في العمود الفقري والدماغ بلغ أكثر من ألفين وهم طريحو الفراش".
وأوضح أنّ "الآلاف من الفلسطينيين أصيبوا بإعاقات سمعية وبصرية" جراء القصف الإسرائيلي، مشيراً إلى أنّ "معاقي غزة بحاجة لأدنى المستلزمات من كراس متحركة أو عكازات".
وأشار "أبو سلمية"، إلى أن الاحتلال دمّر كامل المنظومة الصحية في قطاع غزة، حيث لا توجد أي رعاية صحية أو طبية، ومن بينها مستشفى حمد الوحيدة للتأهيل أو مركز غزة للأطراف الصناعية، مؤكداً أن الاحتلال يمنع دخول أي مستلزمات لهذه الشريحة من المعاقين، كما تمنعهم من الخروج للعلاج بالخارج.
وكان المفوض العام لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا" فيليب لازاريني، قال في تصريحات صحفية سابقة، إن الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، تسببت في "وباء إصابات فظيعة" بين الفلسطينيين مع غياب خدمات إعادة التأهيل.
وأضاف لازاريني أن "جائحة إعاقات تجتاح قطاع غزة بعد الحرب"، مشيراً إلى أن "غزة تشهد أعلى عدد من الأطفال مبتوري الأطراف للفرد الواحد في العالم، حيث يفقد العديد منهم أطرافهم ويخضعون لعمليات جراحية دون تخدير".
وأوضح أنه "قبل الحرب، كان لدى واحدة من كل خمس أسر شملها الاستطلاع شخص واحد على الأقل من ذوي الإعاقة، ووفق منظمة الصحة العالمية فإن 1 من كل 4 أشخاص أصيبوا في حرب غزة يحتاج إلى خدمات إعادة تأهيل بما فيها الرعاية بعد بتر الأطراف، وإصابات الحبل الشوكي".
وتتواصل حرب الإبادة الجماعية في قطاع غزة، لليوم 463على التوالي، وسط قتل وتجويع واستهدافاتٍ مكثفة للمدنيين والنازحين والعائلات الفلسطينية في جميع محافظات القطاع.
وارتفعت حصيلة العدوان الإسرائيلي على غزة، إلى 46 ألفاً و537 شهيداً، و109 آلاف و571 مصاباً، منذ الـ 7 من أكتوبر 2023، وفقاً لآخر إحصائية نشرتها وزارة الصحة.