بحسرة وألم، يتأمل "يحيى أبو عودة" من سكان مخيم بيت حانون شمالي قطاع غزة، يد طفلته "تالا" التي بُتِرت بفعل قصف إسرائيلي غادر استهدف تجمعاً للمواطنين قرب مدرسة حمد بجوار المستشفى الأندونيسي.
يطيل النظر إلى ذراعها الملفوفة بالشاش الأبيض، وكأن عينيه تبحثان عن اليد التي اختفت فجأة، وعن طفولة قُطعت كما تُقطع الأغصان الصغيرة الهشة في حرب إبادة جماعية تشنها "إسرائيل" على قطاع غزة منذ 7 أكتوبر 2023م، لم يُعرف لها مثيل في بشاعتها وعدوانيتها في التاريخ الحديث.

الحكاية المؤلمة بدأت في (7-10-2024م)، حين كان "يحيى" يحمل طفلته "تالا"، التي لم يتجاوز عمرها آنذاك، أحد عشر شهراً، متوجهاً إلى الصيدلية لشراء "علبة حليب" لطفلته الصغيرة، وفجأة دوّى الانفجار، وتبعثرت الأجساد، وسقط يحيى الذي أصيب إصابة بالغة مغشياً عليه، وسقطت طفلته "تالا" من بين يديه، ولم تمضِ سوى ثلاثة أيام حتى استفاق من غيبوبته ليُصدم أن يد طفلته الصغيرة قد بُترت، إضافة إلى فقدانها القدرة على النطق!.
يستعيد الوالد المكلوم ذلك المشهد، فيما تتزاحم الدموع في عينيه، ويقول لمراسل "شمس نيوز": "استيقظتُ من العملية، وبعد ثلاثة أيام رأيتُ تالا مبتورة اليد، حينها لم أتمالك نفسي، كانت صدمة كبيرة أن أرى طفلتي وقد فقدت يدها بهذا العمر وبدون ذنب."
من هنا، بدأت معاناة الطفلة "تالا" التي لم تكن تدرك معنى البتر، ولم تعرف لماذا استهدفها الاحتلال بصواريخه الغادرة، وكان ألمها أكبر من أن يخفى، إذ كانت تبكي كثيراً عند عجزها عن الإمساك بزجاجة الماء، أو دميتها الصغيرة، أو اللعب مع صديقاتها الصغيرات.
التقط والدها أنفاسه، واستجمع قواه، ثم قال: " تالا طفلة صغيرة بريئة ولا تدرك شيئاً في هذه الحياة غير اللعب، لكنها اليوم تعاني من عجزٍ كبير، وأصبحت عصبيتها غير طبيعية، ومنذ الاستهداف لم تعد قادرة على الكلام، وهي بحاجة لعلاج نطق وطرف صناعي ذكي يساعدها على ممارسة الحياة بنصف قدرة."
في إحدى الفعاليات الترفيهية التي كانت تنظمها مجموعات الدعم النفسي والمؤسسات الإنسانية للنازحين في المدارس، طُلب من الأطفال أن يرسموا على كفي يديهم، لكن الطفلة "تالا" لم تجد سوى يدٍ واحدة ترسم عليها، وهنا لفتت انتباه لوالدها وأشارت إلى يدها المبتورة، ولسان حالها يقول: "كيف أرسم على يدي الثانية وهي غير موجودة؟"

في ذلك الموقف، انهارت الكلمات في حلق الأب المكلوم، وكان الصمت أبلغ من كل إجابة، وسالت دموعه على خده، وأخذ يمسح على شعر طفلته ويضمها إلى حضنه، ثم أطلق تنهيدة موجوعة قال بعدها: "كلما أشارت إلى يدها المفقودة، شعرتُ أني أُقتل ألف مرة."
لمتابعة آخر المستجدات الميدانية والسياسية للحرب على غزة اشترك بقناة شمس نيوز على منصة تيلجرام
ولم تتوقف المعاناة عند حدود الإصابة، بل امتدت إلى واقع النزوح والتشرد والفقر، يقول الأب، العاطل عن العمل، إنه تنقّل مع أسرته من مخيم جباليا شمالي قطاع غزة الذي نزح إليه بداية الحرب، إلى غربي مدينة غزة، ثم توالت رحلة النزوح من مكان إلى آخر، بحثاً عن مستشفى أو مكان آمن لعلاج طفلته، لكن المستشفيات كذلك، ومنها: "الشفاء" و"المعمداني" و"الإندونيسي" إما تم قصفها، أو حرقها، أو اقتحامها من قبل قوات الاحتلال، ولم تعد ملاذاً للمرضى.
ويضيف بصوتٍ خافت: "كنت أهرب من القصف وأنا أحمل ابنتي المريضة، أبحث عن طرف صناعي أو حليب أو دواء لها، لكنني لم أستطع توفير أي شيء لها بسبب نفاد الأدوية بسبب الحصار الإسرائيلي الشديد، وكذلك الفقر الشديد الذي نعاني منه بسبب الحرب والتعطل عن العمل."
وبسبب سوء التغذية ونقص المكملات، أصبحت الطفلة "تالا" هشة الجسد، تعاني من ضعفٍ عضلي. وقبل نحو شهر، سقطت على يدها الوحيدة، فكسرتها، يقول والدها: "لم تحتمل يدها الأخرى السقوط فانكسرت، ووقتها أصبحت بلا يدين، واليوم أصبحت تستخدمها قليلاً بعد تعافيها، لكنها مختلفة عن باقي الأطفال."

إضافة إلى بتر يده ابنته، يجتاح "يحيى أبو عودة" ألماً مضاعفاً، حيث أصبحت طفلته هدفاً للتنمر من بعض الأطفال، الذين يلقبونها بـ"مقطوعة اليد"، وهو ما أثَّر سلباً وشكَّل ضغطاً نفسياً شديداً عليها، إذ باتت تشعر بالنقص، وتتجنب اللعب، وتبكي كثيراً طوال الوقت، لدرجة أن والدها لا يستيطع أن يوفر لها لعبة صغيرة تتسلى بها، يقلو بصوت منكسر: "قبل الحرب كنا نفرّحها بلعبة أو حلوى، اليوم لا نستطيع توفير حليبها، ولا حفاضاتها، ولا حتى الطعام الصحي لها."
ويناشد "أبو عودة" الجهات المختصة والمؤسسات الدولية والإنسانية المعنية بحقوق الإنسان وحقوق الأطفال بمساعدة طفلته الصغيرة من خلال تركيب طرف صناعي لها، وتأهيلها نفسياً، يقول: "لا تجعلوا طفلتنا تموت مرة أخرى وهي على قيد الحياة."
ويختم حديثه: "كانت هذه الطفلة هدفاً في بنك أهداف الاحتلال، وصاروخ واحد حرمها يدها، وحرمها الكلام، وحرمها الحياة، كما حرمنا الشعور بالأمان حتى في بيوتنا، وحتى في المستشفيات."
وضع صحي كارثي
وحذّر مدير الإغاثة الطبية في جنوب قطاع غزة، بسام زقوت، اليوم الأحد، من الوضع الصحي الكارثي الذي يعيشه آلاف الأطفال في القطاع، مشيراً إلى وجود أكثر من 4000 طفل على قوائم الانتظار لإجراء عمليات جراحية عاجلة، تشمل العديد من حالات البتر.
وقال "زقوت"، في تصريحات صحفية، إن الاحتلال الإسرائيلي يمنع خروج الأطفال لتلقي العلاج خارج غزة، في وقت يعاني فيه القطاع من نقص شديد في الأجهزة المساعدة لما بعد عمليات البتر، مثل الأطراف الصناعية، إضافة إلى انعدام البيئة المؤهلة للأشخاص ذوي الإعاقة.
في وقت سابق، كشفت وزارة الصحة بغزة، عن وجود 4500 حالة بتر بينهم 800 طفل و540 سيدة.
وقال المدير العام في وزارة الصحة في قطاع غزة، الدكتور منير البرش، إن مستشفيات القطاع تفتقد لأبسط المقومات و80% من المرضى لا يجدون أدويتهم.
بدوره، قال الجهاز المركزي للإحصاء، في وقت سابق، إن العدوان الإسرائيلي المتواصل على قطاع غزة، ألقى آثاره بشكل كارثي على الأطفال في قطاع غزة، التي تتمثل في إصابات جسدية خطيرة، تترك آثاراً طويلة الأمد على صحتهم وحياتهم، قد يحتاجون إلى جراحات متكررة وعلاجات طبية مكلفة، كما أن الإصابات قد تؤدي إلى الإعاقة والعجز الدائمين.
اخترنا لكم: "خبز من الغبار والمعكرونة": حين تُصنع الحياة من المستحيل في غزة
وأشار تقرير الإحصاء الذي جاء تزامنًا مع اليوم العالمي للأشخاص ذوي الإعاقة، الذي يصادف (3 ديسمبر/ كانون أول)، أنه وفقًا لتقرير صادر عن منظمة "إنقاذ الطفل" ونقلا عن اليونيسف في كانون الثاني 2024، فقد تم تسجيل بتر أطراف أكثر من 1,000 طفل، أي بمعدل أكثر من 10 أطفال يوميًا خلال الأشهر الثلاثة الأولى من العدوان.
ولفت إلى أن التقارير الصادرة عن وزارة الصحة إلى أن ما نسبته 70% من إجمالي الجرحى البالغ عددهم 104,567 حتى تاريخ 24 نوفمبر/ تشرين ثاني الماضي هم من الأطفال والنساء.
وقال جهاز الإحصاء، إن عدد الإصابات الجسيمة التي غيّرت مجرى الحياة في قطاع غزة والتي تتطلب إعادة تأهيل مستمرة قُدرت بحوالي 25% من إجمالي عدد الإصابات، أي ما لا يقل عن 26,140 شخصا، حتى ذلك التاريخ.
واستند "الإحصاء" في بيانه، إلى تقرير صدر عن منظمة الصحة العالمية بتاريخ 30/7/2024، حول تحليل لأنواع الإصابات الناجمة عن الحرب، إذ استُخدمت فيه التقارير اليومية الصادرة عن بيانات فرق الطوارئ الطبية (EMT) في الفترة من 10 كانون الثاني إلى 16 أيار 2024، لتقدير عدد الإصابات الخطيرة التي تتطلب رعاية وإعادة تأهيل مستمرتين في غزة، تتضمن هذه الحالات ما بين 13,455 و17,550 إصابة خطيرة في الأطراف، بالإضافة إلى 3,105 - 4,050 حالة بتر للأطراف، معظمها من الأطراف السفلية.
