تقرير: أفنان فهيد
الخامس من يونية لعام 1967.. هو التاريخ الذي لا يمكن أن ينساه أي مصري بشكل خاص، وعربي بشكل عام فهو اليوم الذي انهزمت فيه القوات المصرية والسورية على أيدي الكيان الصهيوني، وأدى ذلك إلى احتلال سيناء والجولان، وضياع ما تبقى من فلسطين، ولأن الفن يخرج من رحم المعاناة، والمأساة هي أبدع أشكال الفن؛ فقد توقع العالم أن يقوم الفنانون المصريون والعرب بتأريخ تلك المأساة في أعمال فنية وأدبية. إلا أن ذلك لم يحدث بالنسبة للسينما، واقتصر التأريخ على الأدب فقط، فيما عُرف بأدب النكسة، وهو الأدب الذي وجد فيه كتّاب الستينيات بديلًا عن الانتحار، وعلاجًا من الاكتئاب. أما الفنانون؛ فقد عانوا من صدمة شديدة أدت إلى ركود السينما بشكل عام، والأفلام الجادة بشكل خاص.
هذا بالإضافة إلى التضيقات التي مارستها الحكومة على السينما المصرية؛ خوفًا من انتقال حرية التعبير إليها واتبعت مبدأ (لا صوت يعلو فوق صوت المعركة) فطغت على السينما موجة من الأفلام الهزلية والغنائية والركيكة والمسفة. مما أجبر بعض الفنانين على التصدي لها عن طريق تجسيد أعمال روائية مهمة، خاصة أعمال “نجيب محفوظ” التي طالما هاجمت سلبيات ثورة يوليو، والضباط الأحرار، فمثلت لصناع السينما طوق النجاة، وكانت تعتبر أفلامًا جادة، وفي الوقت نفسه تنفيسية عمّا يموج بصدورهم من كره وغضب تجاه الحكومة وقتها.
ومن أشهر الأفلام التي خرجت بعد النكسة فيلم “ميرامار”، وهو في الأصل رواية لـ”نجيب محفوظ”.
الفيلم تم منعه من العرض في البداية حتى تشكلت لجنة رقابية ووافقت على عرضه سنة 1969. وخرج محتوى الفيلم كما جاء في الرواية؛ وهو حال المجمتع المصري بعد ثورة يوليو، كما سخر من قيادة الضباط وما جنوه على مصر جراء تهورهم، ونقل أيضًا نماذج لأصحاب ما يسمى بمراكز القوة الذين استخدموا مناصبهم بشكل غير مشروع، بالإضافة إلى نماذج الذين فقدوا سلطتهم بعد ثورة يوليو. ومثلت “زهرة” -الفتاة القروية- نموذج للشعب المصري الذي يتم خداعه بشعارات جوفاء، ويسقط فريسة في براثن أصحاب السلطة والوصوليين. ومن أشهر الأفلام التي مُنعت من العرض أيضًا فيلم “المتمردون”، والذي كان مقدرًا له أن يُعرض عام 1966، لكن الرقابة منعته من العرض لتنبؤه بالهزيمة قبل وقوعها، والفيلم لم يُعرض حتى تم تغيير أحداثه على أساس أنها قامت وانتهت قبل الثورة. وتم عرضه سنة 1968.
كما تم منع فيلم “شيء من الخوف” المأخوذ عن رواية بنفس الاسم للكاتب “ثروت أباظة”. ثم تم السماح بعرضه عام 1969، وهو الفيلم الذي تحدث عن الديكتاتورية وعواقبها، وضرورة الثورة على الطاغوت. وهو الأمر الذي اعتبرته الرقابة إسقاطات، ولم تسمح به في باديء الأمر.
ومن الأفلام التي شابهت أفلام السبعينيات في هيئتها إلا أنها اختلفت في محتواها وأهدافها كان فيلم “ثرثرة فوق النيل” المأخوذ عن رواية بنفس الاسم لـ”نجيب محفوظ” والذي عرض فيه –أيضًا- شكل المجتمع المصري بعد ثورة يوليو، وظهور طبقات جديدة في المجتمع، بجانب الفساد الذي تشعبت جذوره ووصلت لكل الطبقات القديمة والحديثة.
ومن الأفلام الجادة والهامة التي خرجت بعد النكسة كمحاولة لإنقاذ السينما فيلم “البوسطجي” و”الرجل الذي فقد ظله” و”يوميات نائب في الأرياف” و”قنديل أم هاشم” وكلها أفلام من أصل أدبي.
ثم جاءت الرسالة المباشرة للدفاع عن الأرض وعدم الاستسلام للحل السلمي في فيلم “الأرض” عام 1970. وهو أيضًا فيلم من أصل أدبي. إلا أن الفيلم خرج كأنه إسقاط. فـ”شاهين” عبَّر عن سيناء كأرض زراعية يسيطر عليها المستعمر في باديء الأمر، ثم يبددها الإقطاعي المصري الفاسد، ويتصدى له أصحابها من أهل البلدة الفلاحين حتى آخر نفس.
كل ذلك ولم تتعرض السينما المصرية لأمر النكسة بشكل مباشر، ولم تحاول مناقشة الأمر أو مهاجمة الأسباب السياسية والفساد الذي أدى إليها، حتى خرج فيلم “أغنية على الممر” والذي أُنتج عام 1972، وهو الفيلم المصري الأول الذي تعرض لأمر النكسة. والفيلم مأخوذ عن مسرحية بنفس الاسم لـ”علي سالم”, ويحكي مأساة خمسة جنود يوم السابع من يونية، وهو اليوم الذي اعترف فيه الرئيس “جمال عبد الناصر” بالهزيمة أمام الشعب، وأعلن تنحيه عن منصب الرئاسة. حيث بقى الجنود الخمسة في ممر هام بسيناء منعزلين عن العالم؛ بسبب انقطاع شبكات الإرسال، ورفضوا أوامر الانسحاب التي جاءتهم من العدو أولًا ومن القيادة ثانيًا.
اعتبر الجنود الخمسة أن أوامر الانسحاب التي جاءتهم ماهي إلا خيانة لدماء الشهداء، وخيانة للوطن فرفضو أن يتركوا مواقعهم طالما هم على قيد الحياة، واستشهدوا واحد تلو الآخر، وانتهى الفيلم بانتظار آخر جنديين حتفهما. وأثناء الفيلم تتداخل المشاهد بين حاضرهم في الممر وبين حياة كل واحد منهم. وتم إهداء الفيلم إلى كل الرجال الذين دافعوا عن الوطن واستشهدوا.
ثم جاءت ثلاثية “شاهين” عن النكسة والتي بدأت بفيلم “الاختيار” عام 1970. والذي عبر فيه عن حال المجتمع المصري بعد النكسة، وخصوصًا حال الأدباء والمثقفين الذين عانوا من الازدواجية بين ما يكتبونه ما يتفوهون به فعلًا. فجاء بطل الفيلم على أنه كاتب يحتقر أخاه ويقلل من شأن حياته كبحار منغمس في حياة الترف، وبالرغم من ذلك يجعله بطلاً لكل رواياته، ويتمنى في نفسه أن يعيش حياته. ليتنهي به الأمر في سيارة مستشفى الأمراض العقلية.
ثم يأتي الفيلم الثاني في الثلاثية وهو فيلم “العصفور” والذي أُنتج عام 1972، ومُنع من العرض في بداية الأمر.
وهو الفيلم الذي تحدث بشكل مباشر عن فساد الحكومة والأنظمة التي أدت إلى النكسة، والديكتاتورية التي التزمتها الحكومة بمبدأ (لا صوت يعلو فوق الصوت المعركة) وهو الأمر الذي ساعد الفساد في الانتشار، وبالتالي تسبب في الهزيمة.
وفعلًا وقعت الهزيمة في نهاية الفيلم، وخرج “عبد الناصر” بخطاب التنحي الشهير الذي ترك الجميع في حالة من الذهول غير مصدقين أن تلك هي نهاية الحرب فعلًا لتصرخ “بهية” “لا أبدًا أبدًا.. حنحارب.. حنحارب.. أنا بهية بقول لأ”، ثم تنطلق راكضة في الشوارع ويركض معها الآلاف باكين وصارخين “تحيا مصر” دون الهتاف باسم قائد أو جندي.
ثم يأتي المشهد الشهير عندما يُطلق “جوني”(محمود المليجي) العصفور من قفصه. ويتداخل مع ذلك أغاني “الشيخ إمام” الحماسية كرسالة نهائية رافضة للهزيمة ورافضة للحل السلمي.
وجاء الفيلم الثالث “عودة الابن الضال” عام 1976، والذي تحدث عن الجيل القديم المقهور من الجيل الأقدم، وذلك تمثل في “طلبة” الذي عبر عن الضباط الأحرار والحكومة وقتها، ووالدته التي حولته لوحش، والتي عبرت عن الفساد في زمن الملكية. ثم دفعت أفعالهما بـ”عليّ” إلى الهرب والجري وراء أحلامه التي اتضح أنها سراب، ليعود إلى قريته كالجنود المهزومين الذين عادوا من الصحراء.
ثم محاولة “طلبة” ممارسة سلطاته وقهر الجيل الجديد الذي تمثل في “إبراهيم” ابنه الوحيد إلا أنه يفشل. وينتهي الفيلم بقتل كل الأجيال القديمة بعضها البعض، ويهرب “إبراهيم” ليحقق أحلامه ولا ينظر خلفه مرة أخرى.
بعد نصر أكتوبر.. حوّلت السينما وجهتها إلى انتقاد عصر “عبد الناصر” وحده، وشجعت الرقابة والحكومة على ذلك, فقد بعدت هذه الأعمال الفنية الأنظار عن أخطاء الحكومة القائمة وقتها. فخرج مثلًا فيلم “الكرنك” قصة “نجيب محفوظ”، والذي أسهب الحديث عن الاعتقال والتعذيب في سجون “عبد الناصر”، بالإضافة إلى فيلم “إحنا بتوع الأتوبيس” وهو من نوعية أفلام الكوميديا السوداء، والذي أُخذت أحداثه من قصة حقيقية من كتاب “حوار خلف الأسوار”.
ما لا يمكن تجاهله أن مأساة مثل النكسة. لم تجسد بالشكل الكافي في الأعمال الفنية، والتي كان من الممكن أن تكون مصدر إلهام العديد من صناع السينما، وتناولها من عدة جوانب؛ كالتركيز على نفسية الجنود الناجين من المعركة، أو الأسباب السياسية التي أدت إليها، أو تخلي القيادة عن الجنود إلخ.. إلا أن التشديد الرقابي الذي انتهجته الحكومة لم يساعد في ذلك، بجانب النفسية المحطمة للفنانين؛ فأربعة أفلام هي كل ما خرج إلى النور حول النكسة، وأربعة أفلام ليست كافية لتأريخ كارثة إنسانية وسياسية مثل هذه.