تقرير: آلاء السوسي
في مطلع 2006 فازت حماس بالأغلبية الساحقة في الانتخابات التشريعية، بحيث حصلت على 76 مقعدًا من أصل 132، مما مكنَّها من تشكيل حكومتها في مارس، بعد رفض “فتح” المشاركة في حكومة وحدة وطنية ترأسها “حماس”.
هذه السيطرة السياسية لم تعقبها سيطرةٌ فعلية؛ إذ برزت الكثير من العقبات أمام الحكومة الجديدة التي ووجهت بإطباق الحصار عليها بسبب عدم خضوعها لشروط الرباعية الدولية واتفاق أوسلو، لكنَّ أبرز هذه العقبات كانت عدم تعاون الأجهزة الشرطية والأمنية معها؛ إذ كانت تتحرك وفقًا لتعليمات قيادات فتحاوية مناكفة لحركة حماس، مثل محمد دحلان، وكإجراء عملي، شكَّل “سعيد صيام” وزير الداخلية حينها، مجموعةً أمنية أطلق عليها اسم “القوة التنفيذية”، وقال إنها مجرد مجموعات “مساندة” للقوات الأمنية من أجل مواجهة حالة الفلتان الأمني، والحقيقة أنها المجموعة التي سيعتمد عليها صيام في فرض سيطرته الأمنية على غزة لاحقًا.
سادت حالة من التوتر شهدت خلالها الساحة الفلسطينية بعض حوادث الاغتيال السياسي، والاشتباكات المسلحة؛ مما أدى إلى ظهور بعض مبادرات الوساطة للصلح، كان أبرزها “وثيقة الأسرى” و”اتفاق مكة”، ذاك الذي دعا من جديد إلى تشكيل حكومة وحدةٍ وطنية، لكن هذه الجهود كلها ذهبت في مهبِّ الريح، وذلك لأسباب داخلية وخارجية تتعلق -بشكل أساسي- برفض “فتح” وأمريكا وإسرائيل قبول نتائج الانتخابات، والعمل على إفشال حكومة حماس بتضييق الخناق عليها، وإثارة الفوضى داخليًا.
خلال الفترة ما بين مارس 2006 وحتى يونيو 2007، سادت حالة من التراشق الإعلامي والاشتباكات المسلحة المتقطعة بين حركتي حماس وفتح، فكان لا بد أخيرًا من مواجهة مسلَّحة، أفضت إلى سيطرة حماس على قطاع غزة إداريًا وعسكريًا في الرابع عشر من يونيو عام 2007، سُمِّيت هذه السيطرة “انقلابًا” من قبل فتح، بالرغم من أنَّ أحدًا لا يدري كيف تنقلب حماس على نفسها إن كانت حققت فوزًا ساحقًا في الانتخابات يؤهلها لتشكيل حكومة حمساوية خالصة؛ لذا فقد سمَّته حماس “حسمًا عسكريًا” للقضاء على حالة الفوضى، وفي كل الأحوال يمكن اعتبار هذا التاريخ هو التاريخ الفعلي لبداية حكم حماس لقطاع غزة.
هذه السيطرة لم تمتدّ بالتأكيد لتشمل الضفة، بسبب تواجد الاحتلال الإسرائيلي هناك، وضعف القدرة العسكرية لحماس الضفة مقارنة بغزة، فكيف يمكن الحديث عن تجربة حماس في حكم قطاع غزة بعد مرور ثمانية أعوام؟
في البداية، وقبل الخوض في محاور هذه التجربة، يجب أن نطرح هذا التساؤل: هل تجرية حماس في حكم قطاع غزة، تجربة يمكن اتخاذها كنموذج واقعي يمثل فكرة “الإسلام السياسي”؟
الإجابة على هذا التساؤل إجابة معقدة؛ فمن ناحية، كان الخطاب “الجمهوري” لحركة حماس خلال الحملة الانتخابية خطابًا ذا مرجعية إسلامية واضحة، ويُقدَّم كنقيضٍ للخطاب “العلماني” الفتحاوي؛ بل إنَّ إثارة العاطفة الدينية كانت إحدى نقاط القوة التي اعتمدت عليها حماس في حشد الأتباع والمؤيدين، وأقلُّ ما يمكن قوله في هذا السياق، إنَّ حماس لم تبدأ دعوتها إلى أيَّة فعالية سوى بالآية القرآنية: “يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله والرسول إذا دعاكم لما يحييكم”، وكانت دعوة خطباء مساجدها لحثِّ المترددين في شرعية الانتخاب على المشاركة مقرونة بهذه العبارة، أن المشاركة والانتخاب “تكثيرٌ لسواد المسلمين”، وعلى كل حال: فإن المرجعيات الدينية لحماس أوضح من الحاجة للأدلة.
لكن، ومن ناحية أخرى: هل امتلكت حماس تصورًا عن “شكل الدولة” في حال فوزها في الانتخابات؟ أو هل كانت تسعى لإقامة دولة ذات مرجعية تشريعية إسلامية؟
على الرغم من أن الخطاب الجمهوري الذي روَّجتْه حماس تبريرًا لمشاركتها في الانتخابات كان قائمًا على “التغيير والإصلاح”، الذي كان بشكل أساسي يُصوَّر على أنه تغيير ديني؛ إلا أن حماس لم تمتلك أية تنظيرات حقيقية عن “الدولة” أو “شكل الدولة” في حال فوزها في الانتخابات بالأغلبية، وذلك لسببين:
1- وجود الاحتلال الإسرائيلي، الذي كانت مقاومته هي الأولوية قبل مناقشة فكرة “الدولة”؛ لأن الدولة غير متحققة على أرض الواقع في ظل سيطرة الاحتلال على مناطق السيادة الفلسطينية؛ لذا اختزلت حماس خطابها ليكون في إطار إجراء تعديلات وتغييرات مجتمعية، وسياسية فيما يخص الموقف الفلسطيني من الاعتراف بإسرائيل وشرعية المقاومة.
2- كان فوز حماس الساحق مفاجئًا لها، فربما كانت حماس تطمح من خلال الانتخابات إلى تكوين “معارضة” ضمن المجلس التشريعي، لا أن تشكِّل حكومة تكون رأس الهرم السياسي، فتكوِّن بناء عليها تصورًا عن شكلٍ معين للحكم السياسي الذي ستجد نفسها على رأسه.
ومن هنا يمكن القول إن اعتبار تجربة حماس تمثيلًا لفكرة “الإسلام السياسي” ليس دقيقًا، وإنْ كان قد أثرى الفكرة، وإمكانية تحققها، باعتبار حماس تجربة غير مكتملة الشروط، بحيث يمكن الاستفادة منها في مناقشة إمكانية تحقق تجربة مكتملة.
“أسلمة المجتمع” بين الحديث الإعلامي والواقع:
“أسلمة المجتمع” هذه هي الصورة التي صُدِّرت عن أهداف حماس في غزة فورَ سيطرتها؛ ففي خطاب لمحمود عباس في مؤتمر الاشتراكية الدولية في جنيف، قال: “كلنا ثقة من دعمكم لنا، ومساندة دولكم الصديقة في المجالات المختلفة له، ليس فقط لإحباط أغراض (الانقلاب) الذي يهدف إلى إقامة (إمارة ظلامية) متطرفة ومعزولة، وإنما لمساعدتنا على إقامة دولة ديمقراطية مزدهرة”، فهل كانت هذه الصورة صحيحة؟
في الحقيقة، إن حماس وخلال سنوات حكمها لم تُجْرِ أية تغييرات جوهرية في بنية المجتمع الأخلاقية، فبالإضافة لكون غزة مجتمعًا “محافظًا” دون الحاجة إلى مؤثرات، فإن حماس لم تُمنح الكثير من الوقت لتلتقط أنفاسها وتتفرغ لتغييرات دستورية قانونية تشريعية إسلامية، أو لفرض تغييرات تصادمية مع المجتمع، لكنها وبطريقة أكثر ذكاءً، حاولت فرض رؤاها الدينية من خلال وزارتي التعليم والثقافة، ويمكن طرح عدة قضايا كأمثلة على التأثير البيداغوجي الفاعل الذي مارسته حماس في غزة:
1- تم إضافة “القسم الشرعي” لفروع المرحلة الثانوية، والذي يختص بتدريس علوم القرآن والحديث والفقه، وقد تم رصد مكافآت مالية للطلبة المتفوقين الملتحقين بهذا الفرع بهدف جذب الطلاب إليه.
2- حاولت الحكومة في قطاع غزة فرض الحجاب والجلباب على طالبات المدارس الثانوية في سبتمبر 2009، غير أن هذا القرار ووجه بانتقادات حقوقية أدى إلى تراجع حماس عنه، ونفيها أن يكون قرارًا رسميًا، وأنه لا يعدو كونه قرارات من إدارات المدارس نفسها.
3- أقامت حماس مجموعة من المخيمات الصيفية لطلبة المدارس، وقد مثَّل حفظ القرآن، والتدريب العسكري نشاطين أساسيين لهذه المخيمات، حتى إن إسرائيل أبدت قلقها تجاه هذه المخيمات التي تخرج طلابًا قادرين على حمل السلاح، فقد نشرت صحيفة هآرتس تقريرًا تتحدث فيه عن مخيمات حماس وتدريب الطلاب تحت عنوان: “البنادق والسلاح.. أهلًا بكم في مخيمات حماس”.
4- وبعيدًا عن التعليم، فإن النشاط الثقافي في غزة قد شهد ازدهارًا لمطبوعات المثقفين والكتاب والشعراء ذوي التوجهات الإسلامية، في ظل تقلص حضور المؤسسة الثقافية اليسارية أو الليبرالية التي كانت تسيطر على المشهد الثقافي قبل سيطرة حماس.
في مارس 2013 صادقت كتلة حماس البرلمانية في قطاع غزة على قانون التعليم، والذي يتكون من 60 مادة و9 فصول، ويشتمل على مواد تنص على تأنيث مدارس الفتيات بجعل هيئتها التدريسية وكافة العاملين فيها من الإناث، وقد أثار هذا القرار انتقادات نسوية وحقوقية. في يناير 2013، أدخلت وزارة التربية والتعليم بالتعاون مع وزارة الداخلية “برنامج الفتوة” إلى مدارس الذكور الثانوية، وهو برنامج يقوم على التثقيف الأمني والتدريب العسكري، وقد صرح وزير التعليم أسامة المزيني حينها بأن هذا البرنامج يهدف إلى “كنس الاحتلال”، وبعدها بأشهر أعلنت الوزارة نيتها توسيع البرنامج ليشمل مدارس الإناث، وأكد العقيد محمد النخالة مسؤول الملف أن لا ضرر في تدريب الفتيات على حمل السلاح.
بالإضافة إلى هذه المظاهر، فبين الفينة والأخرى كانت الحكومة تطلُّ ببعض توجهاتها، كإصدارها قرارًا يمنع تدخين النساء للنرجيلة في الأماكن العامة.
ومع هذا كله، فقد انتشرت في عهد حكومة حماس، ظاهرة إدمان “الترامادول”، والذي يتم تهريبه عبر الأنفاق الحدودية مع مصر، أو عبر الحدود الشرقية، وحسب إحصاءات مدير عيادة رفح النفسية بوزارة الصحة، ومدير عيادة الطب النفسي وتأهيل الادمان د.يوسف عوض الله، فإن عدد متعاطي الترامادول بلغ أكثر من 250 ألف متعاطٍ! في الوقت الذي لم توجد فيه الحكومة عقوبات رادعة لمروجي العقار أو لمتعاطيه، فقد اقتصرت العقوبات على السجن لفترات متقطعة، أو الغرامة المالية.
هل كوَّنت حماس إذن “إمارة ظلامية” حسب وصف عباس؟
يبدو واضحًا أن هذا التوصيف لم يكن مبرَّرًا إلا من باب الخصومة السياسية، فرغم كل ما سبق ذكره إلا أن حماس لم تحوِّل غزة إلى نموذج “أفغاني”؛ لأن حماس غالبًا ما مارست خطابين في الآن نفسه؛ ففي الوقت الذي تفرض فيه “تأنيث المدارس”، وتحاول “فرض الحجاب” لا يجد إسماعيل هنية رئيس وزرائها حرجًا في التقاط الصور مع ممثلي وممثلات مسلسل “باب الحارة” والإشادة بهم.
وفي الوقت الذي تربِّي أبناء المخيمات على أن الأمة لا تحتاج “الطبل والمزمار”، بل تحتاج الرجال الأشداء الذين يحملون البنادق، تعلن وزارة الثقافة إقامة حفل استقبال رسمي للمغني محمد عساف إثر فوزه باللقب في البرنامج الغنائي “آرب أيدول”.
حماس وإعادة تشكيل الخارطة الإقليمية:
لسنوات عديدة، كانت شبكة العلاقات الإقليمية في المنطقة قد تحددت بما يتفق مع طموحات حركة فتح وبرنامجها السياسي، فظلت مصر -كما صدَّر عرفات صورتها- أمَّ القضية الفلسطينية الأولى، والراعي الذي سيجتذب إليه محاورات السلام في فترات السلم، كما قام بدوره في حروبها وقت الحرب، لكن في عهد حماس تغيرت علاقة القطاع بمصر مدًا وجزرًا وفق النظام الحاكم، فمن مبارك المتزمِّت، إلى مرسي المتضامن، وأخيرًا إلى السيسي الذي تم اعتبار حماس في عهده منظمةً إرهابيةً بحكم قضائي، تمَّ التراجع عنه لاحقًا.
رغم ذلك: لم تفقد مصر مكانتها الإقليمية بالنسبة لغزة، لسبب رئيس يتمثَّل في حتميَّة الجوار الجغرافي، الذي يجعل مصر معبرًا للعالم بالنسبة للقطاع، لا يمكن الاستغناء عن دوره في سلم أو حرب، وقد استعملت مصر السيسي ومبارك هذا الجوار في مجال الضغط على حماس التي اعتبرتها امتدادًا لإخوان مصر؛ لذا لم يكن أمام حماس في هذه الحالة سوى البحث عن حلفائها الجدد.
منذ البداية اتخذت حماس شعار “الانفتاح على الجميع” مبررًا للتواصل مع أي طرف يبدي استعدادًا لدعمها ماليًا أو سياسيًا، حتى الاتحاد الأوروبي، لم تيأس حماس من “تلميع” خطابها أمامه رغبة في كسب ودِّه، ونصرته، وفي الوقت نفسه، كانت قوى إقليمية تتنافس فيما بينها من أجل مصالحها الاقتصادية وطموحها السياسي، وقد وجد الطرفان: حماس والطامحون الطامعون، الفرصة مناسبةً لتشكيل خارطة جديدة للمنطقة، وقد لعبت كل من قطر وتركيا وإيران دورًا بارزًا في هذه التغيرات.
فعلى سبيل المثال، تعتبر العلاقة التي ربطت حماس بقطر نموذجًا على السياسة البراغماتية التي تبنتها حماس، أو اضطرت إلى تبنيها بفعل الحصار المطبق عليها، فعلى الرغم من تواجد القواعد الأمريكية في قطر، وعلاقاتها غير الخافية مع إسرائيل، واختلاف الرؤية بين الطرفين حول صيغة الحل النهائي للقضية الفلسطينية؛ إلا أن هذه العلاقة نمت بينهما بشكل ملحوظ.
بدأ الظهور القطري الفاعل في علاقته بحماس مع دعوة قطر لعقد قمة إبان حرب 2009؛ إذ دُعِي إليها خالد مشعل رغم عدم موافقة مصر وفتح، وبلغ هذا التعاون أقصاه حين قام الأمير حمد بن خليفة بزيارة قطاع غزة في أكتوبر 2012 برفقة زوجته، وهي أول زيارة عربية رسمية لغزة، وما أوحت به مراسم الاستقبال الرسمي -حينها- من اعتراف الأمير بحكم حماس السياسي في غزة.
ومع توتر علاقة حماس مع النظام السوري بسبب موقفها من الثورة السورية، اتجهت حماس إلى قطر التي أبدت استعدادها لدعم حماس في مواقف سابقة متعددة، فانتقلت قيادات حماس، وعلى رأسها خالد مشعل، من دمشق إلى الدوحة، لكن الامتيازات التي منحت لهم في قطر لا يمكن مقارنتها بالرفاهية التي وفرها النظام السوري لحماس خلال سنوات احتضانها.
استمرت قطر في دعم حماس، بل والإخوان في مصر أيضًا، ولعبت دورًا إيجابيًا، خاصة من ناحية الدعم المالي، في مساعدة غزة، لكن، يبقى السؤال الجوهري: لماذا تغامر قطر هذه المغامرة التي تبدو نشازًا خليجيًا؟ يرى أستاذ العلوم السياسية “مخيمر أبو سعدة” أن قطر تريد أن يكون لها دور إقليمي، وهذا ما عبر عنه وزير الخارجية القطري، حينما قال: “إن قطر لن تبقى على هامش التاريخ”.
ومن ناحية أخرى، يبقى التشكيك في استمرار هذا التحالف البراغماتي تشكيكًا مشروعًا، خاصة بعد رفض حماس التوقيع على المبادرة العربية التي تتضمن بند “تبادل الأراضي مع الاحتلال الإسرائيلي”، وضغط مجلس التعاون الخليجي على قطر بسبب مواقفها الأخيرة من الإخوان في مصر، وما أظهرته قطر من مراجعة لخياراتها حين أغلقت قناة الجزيرة في مصر.
أما بالنسبة لتركيا، وهي التي تمثل بالرغم من “علمانيتها الصريحة” محورًا آخر من محاور الاعتدال الإسلامي السني، فقد رأت هي الأخرى أن الفرصة مناسبة لاقتحام المنطقة من البوابة الفلسطينية، وهي البوابة الأوسع في حال الرغبة في حضورٍ إقليمي جيد.
أردوغان الذي أعلن توجهه العلماني في أكثر من مناسبة لم يكن بالنسبة لحماس سوى امتداد لأصوله الإسلامية، وقد أدت مواقفه الإعلامية الجريئة (كموقفه من بيريس في مؤتمر دافوس) إلى تضخيم صورته كبطل إسلامي، وكوريث للسلطان عبد الحميد الثاني حامي حمى الخلافة الإسلامية.
لكن، هذا البطل لم تتجاوز ردود فعله “القطيعة الدبلوماسية” حين أطلقت إسرائيل النار على المتضامين في أسطول الحرية، وذلك لاعتبارات سياسية واقتصادية لا يمكن إسقاطها من الحسابات التركية من أجل القضية الفلسطينية.
استمرت كل من تركيا وقطر في تقديم الدعم المالي والتغطية السياسية لحماس في أكثر من مناسبة، لكن “إيران”، والتي تمثِّل على العكس منهما محورًا للإسلام الشيعي، لم تكتفِ بالدعم المالي والسياسي؛ بل ساهمت في بناء القوة العسكرية لحماس ومقاتليها سواء بتزويدها بالسلاح أو بتدريب قادتها على صناعة السلاج ومهارات القتال، وهذا ما صرح به “أبو عبيدة” الناطق الرسمي باسم كتائب القسام بعد حرب 2014، رغم توتر العلاقات مع إيران حينها.
وبشكل عام: يمكن القول إن هذه التحالفات الإقليمية لم تَسِرْ على خطٍّ واحد طوال الوقت؛ بل إن مواقفها كانت تتأرجح وفقًا للربيع العربي وتقلباته بين الثورات والثورات المضادة، وأبرز هذه التغيرات:
-
الثورة السورية التي أدت إلى تغير موقف النظام السوري وإيران من حماس، بحيث قلصت إيران دعمها المادي والعسكري لحماس، ثم أعادته، لكنها في الفترة الأخيرة ومع تأزم موقف النظام السوري، عادت إلى تقليص دعمها إلى أضيق الحدود.
-
صعود السيسي إلى الحكم، وتضييق الخناق على غزة، باعتبار حماس امتدادًا لجماعة الإخوان المسلمين التي يلاحقها النظام.
-
عاصفة الحزم، والتي حددت فيها قطر موقعها بالعودة إلى المربع الخليجي، بما يمثله كحلف للإسلام السني المعتدل في مواجهة التمدد الإيراني الشيعي في المنطقة؛ حيث شاركت قطر في عاصفة الحزم، وهي العملية التي أعلنت عنها السعودية، على الرغم من الخلافات السابقة بين الدولتين في موقفهما من جماعة الإخوان المصرية.
كانت نتيجة هذه الأحداث وقوع حماس في مأزق سياستها البراغماتية التي اعتقدت أنها من خلالها يمكنها مناورة جميع الأطراف، والاستفادة منها وفق نقاط مشتركة، فكان على حماس أن تحدد مواقفها لتخسر طرفًا على حساب الآخر: إما سوريا وإيران وإما صورتها الشعبية والأخلاقية، إما قطر وإما إيران، على الرغم من ضبابية الموقف في تلك العلاقات المتقلبة جميعها.
ما يمكن قوله في النهاية إن هذه الخارطة الإقليمية الجديدة هي الأكثر هشاشة ومرونة وقابلية لإعادة التشكل في فترات قصيرة؛ إذ إن الاضطرابات السياسية وما اقتضته من تصرفات سريعة أدت إلى تغير مواقع الحلفاء والأعداء بسرعة تقتضيها المصلحة المشتركة العابرة، لا التحالفات الاستراتيجية العميقة.
حماس ولعبة المال: من سينتصر أخيرًا؟
فور سيطرة حماس على القطاع كان لديها تحديان رئيسان: الأمن والاقتصاد، استطاعت السيطرة سريعًا على الحالة الأمنية الداخلية بفضل جناحها العسكريِّ المدرَّب، وتفريغ الكثير من عناصره للعمل بصورة رسمية في الأجهزة الأمنية التابعة للمؤسسة السياسية، لكن المعضلة الرئيسة بقيت في التغلب على الحصار الاقتصادي المفروض على القطاع.
رفضت البنوك العاملة في غزة التعامل مع حماس كسلطة سياسية، فلجأت حماس إلى البديل وأنشأت البنك الوطني الإسلامي في 2009، هذا البنك الذي صرحت سلطة النقد الفلسطينية في رام الله بملاحقته قضائيًا، وحذرت من التعامل معه، واعتبرته غير قانوني لا يصلح لأي تعاملات دولية، ولن تتعدى مهامه مهام محلات الصرافة، وعلى الرغم من ذلك استطاعت حماس من خلال هذا البنك تسيير الأمور المالية لموظفيها بعد استنكاف موظفي فتح عن العمل بأوامر قياداتهم في رام الله، بسبب اعتبار سلطة حماس غير شرعية في غزة.
ويبقى السؤال الرئيس، من أين حصلت حماس على الأموال من أجل تسيير القطاع؟ إجابة هذا السؤال لن تكون واحدة في السنوات الثماني؛ إذ ما كان ممكنًا في السنوات الأولى لم يكن ممكنًا في الأخيرة، والعكس صحيح، لكن، وباختصار، فقد اعتمدت حماس على المصادر التالية للتغلب على أزمتها الخارجية:
1- أموال الدعم الخارجي، ولكن بقي هذا الدعم متذبذبًا غير منتظم، يتأثر بالمواقف السياسية للحركة خاصة فيما يتعلق بالخزانة الإيرانية، بالإضافة إلى الدعم التركي والقطري، غير أن قطر ظلت تحاول ألا تلغي دور سلطة رام الله تمامًا، فبعد الحرب الأخيرة لم تتمكن قطر من تحويل أموال الإعمار مباشرة لحماس.
2- جمارك الأنفاق و”الشنطة”: شكلت الضرائب والجمارك التي فرضتها حماس على حركة الأنفاق في عصرها الذهبي خلال حكم مرسي مصدرًا جيدًا لميزانية الحكومة، كما أن تسليم أموال الدعم الخارجي يدًا بيد عن طريقة “الشنطة” عبر الأنفاق لا البنوك، عمل على تحسن الوضع الاقتصادي بشكل ملحوظ، غير أن إغلاق هذه الأنفاق في عهد السيسي أدى إلى انتكاسة حقيقية في الوضع الاقتصادي.
3- غسيل الأموال: أُثيرت الكثير من التحقيقات حول استغلال حماس لبعض رجال الأعمال في مشاريع اقتصادية وتجارية وإقامة جمعيات ومشاريع خيرية ضخمة تعود أرباحها إلى الحركة، وقد كان آخر ما أُثير حول هذه القضية أنباء عن اعتقال قوات الأمن السعودية للقيادي الحمساوي “ماهر صلاح”، واتهامه بقضية “غسيل أموال”.
4- مشاريع خاصة بالحكومة، كالمشاريع الزراعية التي أقامتها الحكومة في الأراضي التي انسحبت منها إسرائيل عام 2005.
وإذا عدنا إلى هذه المصادر لنقيِّمها حاليًا سنجد أنها تقلصت إلى أبعد حد، سواء الدعم الخارجي الإيراني الذي تقلص لظروف الثورة السورية، أو الأنفاق التي أغلقت في عهد السيسي، أو ملاحقة الجمعيات الخيرية عالميًا بتهمة تمويلها جماعات إرهابية، ولم يكن آخر هذه الملاحقات إغلاق “بنك فلسطين” لحسابات مجموعة من الجمعيات الوسيطة لكفالات الأيتام، هذه العوامل كلها أوقعت حماس في أزمة اقتصادية خانقة، خاصة في ظل فصلها بين موارد حماس كحكومة وحماس كحركة، أدت في النهاية إلى عجزها عن تحقيق موازنة اقتصادية واقعية تفي بحاجة القطاع لعام 2014، رأى حينها الخبير الاقتصادي “سمير أبو مدللة” أنه من الطبيعي تأخر الإعلان عن الموازنة في ظل أزمة حركة حماس المالية، والتغييرات في الوضع الإقليمي. وإن حماس “تعاني من أزمة مالية خانقة بسبب إغلاق الأنفاق مع مصر، والتي كانت موردًا ماليًا رئيسًا للحكومة؛ فالأنفاق كانت تغطي أكثر من 40% من الموازنة سنويًا”. وقد ظهر هذا العجز واضحًا في عدم مقدرتها على توفير رواتب موظفيها الحكوميين مطلع عام 2014، مما دفع بها في النهاية إلى التخلي عن الحكم والموافقة على تشكيل حكومة وفاق وطني في يونيو 2014.
يبدو أن حماس اعتقدت أن حكومة الوفاق ستكون المموِّل الذي يفك أزمة القطاع المالية والإدارية فقط، بينما سيبقى القطاع محكومًا لسيطرة حماس بعناصرها العسكرية، وهذا ما لم يحدث؛ مما أدى إلى فشل عمل الحكومة التي أرادت السيطرة الفعلية، حيث رأت فتح أن هذه هي الفرصة المناسبة للعودة إلى القطاع وإخضاع حماس لسلطتها العسكرية من جديد، وهذا يعني العودة إلى الصراع الحمساوي-الفتحاوي على السلطة، وهو ما لن تغامر حماس بالموافقة عليه.
والآن، بعد مرور عام على تشكيل حكومة التوافق، بقيت الأوضاع الاقتصادية على ما هي عليه؛ لذا فقد أقرت كتلة حماس البرلمانية ضريبة أسمتها “ضريبة التكافل الاجتماعي” تفرض على المؤسسات ذات الربح المرتفع والسلع “التكميلية”، وقد أثارت هذه الضريبة غضب المعنيين بها، ودعتهم إلى وقف الاستيراد بسبب الضرائب، وهو ما زاد الوضع الاقتصادي سوءًا.
وهذا يعني ازدياد حالة التذمر في الشارع الغزي الذي يعاني من انقطاع الرواتب، والحصار الخانق، وعدم بداية مشاريع الإعمار بعد الحرب بسبب الخلافات الحزبية، وهو ما قد يكون بداية مرحلة جديدة في عمر حماس: لا كحكومة فقط؛ بل كحركة مقاومة.
حماس وقوتها العسكرية:
خلال فترة حكم حماس خاض القطاع ثلاث حروب ضارية، بمعدل حرب كل عامين تقريبًا: 2009 – 2012 – 2014، وهذه مقدمة كافية كمدخل للحديث عن القوة العسكرية لحماس من جهة، ومدى الرغبة الإسرائيلية في القضاء عليها، بوصفها تهديدًا وجوديًا لإسرائيل من جهة أخرى.
وعلى الرغم من حالة التأزُّم التي تمر بها حماس سياسيًا واقتصاديًا؛ إلا أنها على المستوى العسكري حرصت على الاستمرار في التطور والتقدم، بحيث تفاجئ إسرائيل كل مرة بما لم يكن لديها في مرة سابقة، كإشارة واضحة على أن أي عملية قمع -مهما بلغت- لن توقف حماس عن التقدم في الميدان العسكري.
وبما أن الحرب الأخيرة هي الحرب الأعنف والأطول إطلاقًا (وهو ما يعد خرقًا للمنظومة الأمنية الإسرائيلية المبنيَّة على نظرية الحروب القصيرة المباغتة)، فبالحديث عنها نجد أن حماس اتبعت استراتيجيات واضحة في أدائها العسكري اعتمدت على:
1- المباغتة: فقد فاجأت عملياتها النوعية المنظومة الدفاعية الإسرائيلية منذ الأيام الأولى من الحرب، كعمليات التسلل البرية عبر الأنفاق، أو البحرية “كعملية زيكيم”، وعملية “ناحل عوز”.
2- الدقة: كانت أهدافه حماس دقيقة غير عشوائية (مطار بن غوريون كمثال)، بحيث أطلقت صواريخها بعيدة المدى في أوقات محددة لأهداف محددة يتم الإعلان عنها مسبقًا، وهو ما شكَّل تحديًا للمنظومة الدفاعية، وأفقدها الثقة لعدم مقدرتها على الرد رغم إعلان النية والهدف مسبقًا.
3- العمق: لم تقتصر المعركة هذه المرة على دائرة (مستوطنات غلاف غزة)، بل امتدت لتطال العمق الإسرائيلي؛ حيث استطاعت الصواريخ الوصول إلى أهداف تبعد أكثر من 160 كم عن قطاع غزة.
4- التصنيع الذاتي: أظهرت حماس (إعلاميًا) مقدرتها على تعويض كل ما يتم إطلاقه من الصواريخ، وأوضحت أن عمليات التصنيع كانت جارية تحت الأنفاق حتى في ظل الحرب. كما أعلنت عن إطلاقها طائرتها الاستطلاعية “أبابيل 1″، والتي قالت بأنها حلقت فوق مبنى وزارة الدفاع الإسرائيلية.
5- الاستغلال الأمثل للقدرة العسكرية: حرصت حماس على عدم إظهار أي تراجع خلال فترة الحرب، خاصة فيما يتعلق بقوتها الصاروخية بعد أن طالت الحرب؛ إذ يبدو أنها فهمت رهان إسرائيل على نفاذ عدتها؛ لذا أصبحت في الأيام الأخيرة -وعلى عكس الأيام الأولى من الحرب- تقلص عدد الصواريخ التي يتم إطلاقها، مع المحافظة على بقاء حضورها العسكري في العمق الإسرائيلي، بالإضافة إلى أنها لجأت إلى قذائف الهاون قصيرة المدى التي تعجز القبة الصاروخية عن ردها، واستهدفت من خلالها مستوطنات غلاف غزة.
6- الإعلام: استخدمت كتائب القسام خطابها الإعلامي بشكل محوري خلال هذه الحرب، فركّزت على الخطابات القصيرة الموجزة للناطق باسمها “أبو عبيدة”، والاهتمام بتصوير عملياتها النوعية مثل تدريبات زيكيم، وعملية الإنزال في ناحل عوز، وقتل الجنود من مسافة صفر، وهو ما حقق التأثير على الجبهة الداخلية الإسرائيلية، التي ظهرت أضعف من المواجهة مع هؤلاء المقاتلين الذين خرجوا من الأنفاق المعدة بشكل صادم.
لقد كانت شبكة الأنفاق المصممة بشكل معقد، والصواريخ بعيدة المدى محلية الصنع، والقذائف قصيرة المدى، وعمليات الإنزال والتسلل النوعية، وطائرة الاستطلاع أبابيل1، تشكِّل انعكاسًا واضحًا لمدى تطور القوة العسكرية لحماس.
-لماذا تحرص حماس على تطوير قدرتها العسكرية بشكل دائم، ورصد موازنات مالية ضخمة لها حتى في ظل التأزم الاقتصادي العام؟
تعلم حماس جيدا أنَّ ما يحفظ لها الحاضنة الجماهيرية ليس كونها حزبًا سياسيًا انتقل من المعارضة إلى السلطة، ولا كونها مجرد حركة إسلامية دعوية، إن ما يحفظ لحماس هذا الحضور والتعاطف الشعبي هو تلك المواجهات (الشجاعة) المتكررة مع الاحتلال الإسرائيلي، لا تعلم إسرائيل أن ما تمنحه لحماس من التعاطف والتضامن الجماهيري الإسلامي والعربي عبر هذه الحروب هو أكثر مما تأخذه منها، فحتى خسارات حماس الكبيرة لن تعتبر هزيمة في حال من الأحوال، إذا ما قورنت بتحديها واحدةً من أقوى الترسانات العسكرية في العالم، وإذا كنا بحاجة إلى التدليل على هذه الفرضية بإمكاننا العودة إلى مناظرة الكتل الطلابية في جامعة بيرزيت 2015، ومناقشة النقاط التي طرحها المتحدث باسم الكتلة الإسلامية، لقد كانت كلها ترتكز حول التباهي بالقدرة العسكرية الفذَّة لحماس خلال حربها الأخيرة في غزة، وهو ما أدى في النهاية إلى فوز كتلة حماس الطلابية.
هل هذا يعني أن سياسة حماس في تسخير معظم مواردها المالية لتطوير قدرتها العسكرية بالرغم من تردي الأوضاع الاقتصادية والإنسانية سياسة صحيحة؟
لقد وقعت حماس بين فكي الكماشة، فإما أن تستمر في تطوير منظومتها الصاروخية ذاتيًا، وباستقلالية عن الدعم الإيراني المتذبذب، وفي ظل قلة الموارد الأولية الناتجة عن الحصار وإغلاق الأنفاق، وإما أن تسخر جزءًا من أموال دعم (الحركة) لصالح (الحكومة) للعمل على تحسين الأوضاع الاقتصادية لسكان قطاع غزة، ويبدو أن حماس رجحت كفة (العسكري) على (المعيشي) لأسباب تبدو مبرَّرة؛ كاحتمالية مواجهة وشيكة.
لكن، هذه المغامرة ليست مضمونة العواقب في كل الأحوال؛ إذ ازدياد الضغوطات المعيشية على السكان بعد حرب طاحنة، تجعل الأوضاع تزداد اضطرابًا بانحدارها للأسوأ.
حماس والحل المرحلي:
الوجه الآخر لحماس، غير الوجه العسكري السابق الذي يظهر بصوت “أبو عبيدة” الذي لا يعرف حلًا وسطًا، هو وجه سياسيِّيها الذين يجلسون على طاولة المفاوضات من أجل التهدئة في أوقات الحرب، ومن أجل المصالحة في وقت السلم، ومن أجل تحسين صورة حماس في المرآة العالمية والعربية كحاجة ملحَّة لرفع الحصار، وتسيير الأمور في غزة.
هل يبدو أن هناك انفصالًا ما بين الوجهين من خلال هذا التمييز؟
في الحقيقة أن الخطابين يختلفان في بعض النقاط مع تقاطعهما في المشترك العام لمبادئ حماس وميثاقها، ولكلٍ منهما توقيته الخاص؛ ففي أوقات التهدئة يُترك المجال للوجه السياسي لمحاولة فتح الأبواب بطرق براغماتية ودبلوماسية أتقنتها حماس مع الوقت، ويظل الجزء العسكري من حماس غارقًا في تطوير نفسه وهو يستعد للمرحلة القادمة، وما أن تُعلن الحرب، فإنه لا صوت يعلو فوق صوت “أبو عبيدة” الذي يظهر خطابًا أصوليًّا بمرجعيات دينية أصولية بحتة موجزة ومختصرة.
وهذا بالتأكيد لا يقع ضمن التناقض؛ فالحالة الفلسطينية المعقَّدة اعتمدت منذ 1975 خطابًا ثنائيًّا؛ أحدهما “شعاراتيّ” يضرب على أوتار حماسية وعاطفية، والآخر “براغماتيّ” مخصَّص لبعض الواجهات السياسية، وكلٌ يؤدي دوره، حتى داخل الصف السياسي نفسه سنجد أن الأصوات تختلف وتتناقض من وجه لوجه؛ فخالد مشعل ليس هو محمود الزهار، وفي أحيان أخرى من تصريح لآخر لنفس الشخصية، فخالد مشعل في مقابلة لـ “سي إن إن” ليس هو نفسه في خطاب الاحتفال بانتصار غزة في حرب 2012.
لقد رفضت حماس حل الدولتين، وكانت تؤكد على حق الشعب الفلسطيني بكامل أرضه التي تقع جغرافيًا ما بين البحر والنهر، وهي ليست مسألة جغرافيا فقط؛ بل هي أيضًا “وقفٌ إسلاميٌّ” لا يجوز التفريط فيه من ناحية شرعية؛ وعليه: فقد رفضت حماس اتفاقية أوسلو، ورفضت الاعتراف بإسرائيل، وحل الدولتين، وهذا ما ردده إسماعيل هنية في معظم خطاباته الجماهيرية.
غير أن هذا الخطاب بدأ يتسم بشيءٍ من الليونة عبر خالد مشعل الذي عبَّر خلال مقابلة صحفية عن قبوله لدولة فلسطينية في حدود 67، تقرِّر بعدها هذه الدولة موقفها من إسرائيل اعترافًا أو إنكارًا، كما ميَّز بين “المدنيين” الإسرائيليين و”العسكريين”، وهذا تمييز جديد على حركة حماس؛ إذ الاعتراف بوجود “مدنيين” لا تُعنَى المقاومة باستهدافهم سيحيل إلى مسائل أكبر منها، كالاعتراف بدولة إسرائيلية.
وفق هذه الرؤية تبدو حماس اقتربت مما توصلت إليه فتح بعد سنين من المناكفة وتبادل الاتهامات، لكن حماس تبرر الأمر بأن قبولها بدولة في حدود 67 لا يعني بالضرورة اعترافها بشرعية وجود إسرائيل، هذا التبرير الذي يقع في دائرة بلاغة السياسة وإرهابها، لا بلاغة الواقع الذي يقول إن القبول بدولة في حدود 67 هو تغير وتحول في الخطاب الحمساوي يتجه لتبني الحل المرحلي على حساب الحلول الجذرية التي بنت حماس أحلام أتباعها عليها سابقًا.
ويبدو أن المزيد من المراجعات للخطاب التنظيري ستتم في الأيام المقبلة بفعل التغيرات التي شهدتها المنطقة كظهور “داعش” كواجهة للفكر المتطرف، والذي سيدفع حماس لإثبات التمايز الجاد عنه بمراجعة الظلال الراديكالية في خطابها، كما أن تجارب الأحزاب الإسلامية في تونس وتركيا ستغني الإسلاميين بمزيدٍ من الخبرة في المجال السياسي والطريق الأمثل للتعامل معه.
خلاصة:
لقد أدى صعود حماس كحركة معارضة ذات توجهات إسلامية إلى الحكم قبل هبوب ثورات الربيع العربي إلى إعمال حركة نشطة في المنطقة، أدت إلى زعزعة شبكة العلاقات الإقليمية، وإحياء الأمل في روح حركات المعارضة في الدول المجاورة.
مع الربيع العربي ازداد اضطراب العلاقات والتحالفات بالثورات والثورات المضادة، وهو ما أثر سلبًا على الحكومة التي بقيت رهن مواقفها السياسية كشرط للتمويل الخارجي، مهما ادعت حماس غير ذلك، وأن الدعم الذي يقدم لها دعم غير مشروط.
على إثر هذا الاضطراب ازداد الوضع الاقتصادي سوءًا، وتفاقمت أزمات كانت موجودة سابقًا كأزمة الكهرباء، والمعابر، ومن ثم الرواتب، وأخيرًا: الإعمار المتوقف بسبب خلافات على السلطة بين حماس وفتح.
تواجه حماس حاليًا موقفًا لا تحسد عليه، فهي واقعة بين متطلبات سكان القطاع المعيشية التي لا تستطيع تلبيتها، وبين الموافقة على عودة سلطة فتح إلى القطاع وهو ما يعني عودتها إلى ما قبل 2006، وهذا ما لن توافق حماس عليه.
وإذا كان من غير الممكن التكهن بما قد تؤدي إليه الأوضاع المأساوية التي يعيشها سكان القطاع في ظل أزمات الماء والكهرباء والوقود والرواتب والإعمار والتهديد بحرب قادمة، وإذا ما كان الانفجار سيكون في وجه حماس أم في وجه أطراف أخرى مشاركة في التسبب بهذه الحالة المأساوية، فإن ما يمكن التكهن به هو أن هذا الهدوء لن يستمر طويلًا.