مرّت قبل بضعة أيام الذكرى الخامسة والستين لإنشاء جهاز الاستخبارات والمهام الخاصة الإسرائيلي "الموساد"، في ظل إجماع إسرائيلي على أهمية الدور الذي يؤديه الجهاز ليس فقط على مستوى التحديات الأمنية التي تواجهها إسرائيل، بل وبشكل خاص إسهامه في تحسين المكانة الجيو استراتيجية للكيان الصهيوني. وكانت هذه مناسبة لكي يُذكّر رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، برِهان تل أبيب على دور الموساد "في تعزيز قدرة إسرائيل على القيام بدور القوة العالمية"، وعدم الاكتفاء بدور القوة الإقليمية الرائدة. ونقلت صحيفة "ميكور ريشون" عن نتنياهو قوله، في احتفال نُظّم بهذه المناسبة في مقر الجهاز في منطقة جليلوت، شمال تل أبيب، إن أداء "الموساد" عزّز مظاهر القوة الإسرائيلية، لدرجة جعلت الكثير من الدول تهتم بالتحالف مع إسرائيل، مشدداً على أن "أحداً في العالم غير معني بالتحالف مع الضعفاء".
وبخلاف الانطباع الأولي، فإن العمل الاستخباري يُعدّ مجالاً واحداً ضمن عدة مجالات رئيسية ظل "الموساد" يضطلع بها منذ تأسيسه في العام 1950. فحتى مطلع تسعينيات القرن الماضي، كان "الموساد" مسؤولاً عن ملفين استراتيجيين مرتبطين بـ"الأمن القومي" الإسرائيلي، وهما: تأمين تدفق الهجرة اليهودية إلى فلسطين المحتلة، والحرص على بناء علاقات سياسية سرية مع دول لا تقيم علاقات دبلوماسية مع إسرائيل بشكل معلن.
ولقد كان لـ"الموساد" في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، الدور الأبرز في تهجير اليهود من العالم العربي، إذ أسهمت عمليات التهجير السرية التي قام بها هذا الجهاز بالتعاون مع أطراف إقليمية، في تحسين الميزان الديموغرافي لليهود بشكل كبير. ففي كتابه "عالم بأكمله: قصة رجل موساد"، الصادر حديثاً، كشف النائب الأسبق لرئيس "الموساد"، نحيك نفوت، عن الكثير من العمليات السرية التي نظّمها الجهاز لتهجير اليهود من العالم العربي. وكان "الموساد" المسؤول الوحيد عن تهجير يهود إثيوبيا "الفلاشا" في منتصف ثمانينيات القرن الماضي. وفي الوقت ذاته، قام "الموساد" بدور وزارة الخارجية من خلال سعيه لبناء علاقات سياسية وأمنية مع دول تشكّل العلاقة معها ذخراً استراتيجياً خاصاً، منها دول توجد في حالة صراع مع العالم العربي، ومنها دول عربية لم تكن تقيم علاقات دبلوماسية علنية مع إسرائيل.
أما الضابط السابق في "الموساد"، يوسي ألفر، فكشف في كتاب له بعنوان "دولة في عزلة: بحث إسرائيل السري عن حلفاء في المنطقة"، تفاصيل كثيرة عن دور هذا الجهاز في تدشين علاقات سرية مع عدد من الدول العربية.
لكن لم يعد "الموساد" حالياً منشغلاً بقضايا الهجرة أو تعزيز العلاقات السرية، بعد أن تم تهجير، تقريباً، كل اليهود في العالم العربي، وبعدما توصّلت دول عربية لاتفاقات تسوية مع إسرائيل. وفي العقدين الماضيين، كلّفت الحكومة الإسرائيلية "الموساد" بعدد من الملفات المهمة، على رأسها إحباط المشروع النووي الإيراني، إذ نُفذت في إيران عدة عمليات سرية نُسبت لـ"الموساد"، ضمنها: تصفية علماء ذرة إيرانيين، تنفيذ عمليات تفجير استهدفت مخازن سلاح، وشن هجمات إلكترونية، أخطرها عام 2009، الذي استخدم فيه فيروس "stuxnet"، الذي أدى إلى تعطيل الآلاف من أجهزة الطرد المركزي التي تستخدم في تخصيب اليورانيوم.
وسيظل تعقّب البرنامج النووي الإيراني على رأس أولويات "الموساد"، حتى بعد توصل إيران والدول العظمى لاتفاق جنيف، إذ سيكون الجهاز مطالباً بالحصول على أية معلومات استخبارية تدل على أن الإيرانيين يخرقون الاتفاق في السر من أجل التحريض على استئناف فرض العقوبات على إيران، التي يفترض أن يتم وقفها.
في الوقت ذاته، يتولّى "الموساد" دوراً رئيساً في عمليات إحباط تسليح المقاومة الفلسطينية و"حزب الله"، من خلال جمع المعلومات التي على أساسها يتمكّن الجيش الإسرائيلي من مهاجمة ما تدعي تل أبيب أنها قوافل تنقل السلاح تكون في طريقها إلى لبنان أو غزة.
وقد كشفت صحيفة "يسرائيل هيوم" أخيراً، أن "الموساد" يتولّى أيضاً مواجهة تمويل "التنظيمات الإرهابية" من خلال التعاون مع أجهزة استخبارية في دول أخرى. وأخيراً، تم تكليف الجهاز بلعب دور مهم في مواجهة حركة المقاطعة الدولية وإحباط الأنشطة التي تقوم بها المنظمات الدولية التي تحتج على الحصار الذي تفرضه إسرائيل على قطاع غزة. فقد نُسب للجهاز العام الماضي، قيامه بتخريب سفن كانت راسية في موانئ قبرصية، وكان من المقرر أن تنقل نشطاء سلام أجانب وتبحر بهم إلى شاطئ غزة.
وحصل تحوّل لافت على طابع التوجهات الأيديولوجية للعاملين في "الموساد"، فبعد أن كانت الأغلبية الساحقة من العاملين فيه هي من العلمانيين، وتحديداً من القاطنين في القرى التعاونية (الكيبوتسات)، فإن صحيفة "معاريف" كشفت قبل فترة أنه قد حدثت زيادة كبيرة على عدد المتديّنين الذين باتوا يلتحقون بالجهاز، لدرجة أن الجهاز عيّن حاخاماً لتمكين هؤلاء من الحصول على استشارات "فقهية" حول العمليات السرية التي ينفذونها في إطار عملهم.
ويتزامن الاحتفاء بالذكرى الخامسة والستين لتأسيس "الموساد" مع اقتراب موعد تسمية رئيس جديد للجهاز خلفاً لتامير باردو، ومن أبرز المرشحين لخلافته مستشار الأمن القومي يوسي كوهين، الذي كان نائباً لرئيس الجهاز وقاد لسنوات شعبة تجنيد العملاء في الجهاز المعروفة بـ"تسوميت".