بقلم: ابراهيم نصر الله
رحل محمد رجب التوم، أكبر معمر فلسطيني، عن مائة وسبعة وعشرين عاما، ملوّحا لغزة ولزمن ليس كبقية الأزمنة، زمن طويل، صاخب، قاتل، جاف، متواطئ، وحشي.
في هذا الرجل شيء عميق من ذلك السحر الذي يسكن اسم فلسطين ومعناها، فلسطين المتجددة، التي كلما فتحت شباكها في الصباح أنجبت شمسا جديدة، وكلما أبدعت أغنية أو قصيدة اهتدت لطريق يؤدي إلى البحر، وكلما تصفحت ليلها، ولد نجم جديد به نعرف الطريق الأكثر وضوحا للمدن والقرى والبيوت والبيارات والجبال التي لا تعرف الانحناء.
كان شاعرنا العربي القديم يقلِّب العمر باكيا، وقد بلغ الثمانين، هاجيا السأم وعكازة لم تعد تعرف الطريق كأعين حاملها؛ ولم يكن شاعرنا ذاك هو الأول، كما لم يكن الأخير، فلطالما وجد الإنسان نفسه في ذلك الطريق الذي يأخذ بالضيق قليلا قليلا، حتى يتحول إلى نقطة كالصفر لا تتسع لجسد ولا روح.
إنه زمن طويل، طويل للغاية، أن تعبر ثلاثة قرون، وترى كل الذي مر، شاهدا وشهيدا على بشر يرحلون وبشر يولدون وأحباء يمحون بقدومهم أحزان رحيل أحباب آخرين، وبيوت تهدم وأخرى تصعد من جديد، ووجوه تطل وتختفي، تاركة خلفها دائما ذلك الأثر الذي لا تمحوه حرب ولا يرممه سلام مريض.
كم مرة ولدت غزة على ذلك الشاطئ؟ كم مرة أنجبتْ نفسها؟
حرب واحدة تكفي، لكي تصرخ الأرض يكفيني موت، وتصرخ الأشجار يكفيني نار، وتصرخ البحار يكفيني ظلمة، وتصرخ الأمهات يكفينا طرق لا تعيد إلينا قلوبنا. ويصرخ الساحل أنا ملعب للصغار، لا لبكاء ألعابهم عليهم كلما قتلتهم بارجة لا يجد القتلة الذين فيها من سبيل لتبديد ضجرهم إلا المجزرة.
ما الذي خطر ببال محمد رجب وهو يمدّ يده فتى ويلمس مطر الصباح في اليوم الأول من القرن العشرين، وهو يرى مَن حوله يساقون إلى حروب بعيدة، في أماكن لم يسمع بها ولم يسمعوا، ثم ليمضي نفسه إلى الحرب شابا في عصر الامبراطورية العثمانية، ويعود، وقد رحلت الامبراطورية، ليجد في انتظاره امبراطورية أخرى على أبواب غزة.
ما الذي خطر بباله، شيخا، وهو يتحسس رؤوس أبنائه وأحفاده، وهو يعبر القرن الحادي والعشرين، وكل ذلك الموت الصهيوني يحوِّم في الفضاء؟
امبراطوريات تذهب وأخرى تأتي، لتذهب بدورها، ويواصل محمد رجب تأمّل ما يراه كما لو أنه شاهد على التاريخ وهشاشته، وشاهد على هشاشة أباطرته وزعمائه، وشاهد على غزة التي كلما نفضت الرماد عن جسدها أصيبت بحرب أخرى، وشاهد على غزاة جدد وجدران أعلى وأبواب مغلقة لا مجد لمن يتحكمون بمفاتيحها سوى تذللهم وهزيمة ضمائرهم وتفسخ أرواحهم.
ذات يوم كتب معين بسيسو في مذكراته عن أيام سجنه في غزة: على حائط كل زنزانة يرسم السجين سفينة أو طائرا..
كم من سفينة وطائر رسم محمد رجب على جدران غزة وهوائها ورمالها ومائها وهو يرى السجن مقيما، والبحر مطاردا، والساحل ملعبا للقذائف، والبيوت تعود إلى أصلها ترابا كالبشر، كلما تفتحت شهية القتلة.
أزمنة طويلة مرت، وكلما جاء احتلال تحررت منه غزة، وكلما تحررت تحولت إلى سجن من جديد.
تلك المدينة التي سمّاها اليونانيون (المدينة العظيمة)؛ ذروة الجنوب الفلسطيني خضرةً، ونهاية برِّ سيناء القاسي. تلك المدينة الكنعانية الفاتنة، التي كانت محط القلوب ومحط الأطماع، كما لو أن كل جمال يوقظ غريزة التملك.
غزة التي قاومت سرجون الأكادي، الملك البابلي؛ وقاومت قمبيز في عهد الفرس؛ وصمدت عاما في وجه واحد من أعظم محاربي التاريخ: الاسكندر المقدوني؛ ووقفت في وجه نابليون لتعيق وصوله إلى عكا. وبين حصار وحصار كانت تنهض، ويعمّها الرخاء من جديد، إلى حد التجاء قنصل فرنسا في بلاد الشام، ذات يوم، إلى واليها: حسين باشا، للاقتراض منها، ليسد العجز الذي هزّ ميزانية بلدية باريس.
لكن الدكتور عصام سالم سيذهب إلى ما هو أكثر اتساعا من ذلك حين يقول: في الوقت الذي كان فيه السان جرمان يُغلق ليلا، وكانت أضواؤه تطفأ، كانت أنوار غزة في ثمانينيات القرن السادس عشر لا تطفأ أبدا!
لا يعرف المرء كم من بقعة أرض صغيرة بحجم غزة قد عاشت كل هذا الموت، وعاشت كل هذا التحدي، وعاشت كل هذا الأمل وتمسكت به.
لا، لم يكن محمد رجب، ومن مثله من سيدات غزة ورجالها على خطأ، حين تمسكوا بالأمل، حين عاشوا، وأنجبوا، ورعوا، ووزّعوا ذاكرتهم في أبنائهم وأحفادهم.
غزة التي كلما جاءها محتل وجد نفسه يتسلل حاملا هزيمته هاربا في كل مرة، قبل أن تصحو من نومها، وكلما حاصرها أحد لم يعش سوى ارتجاف يديه القابضة على مفاتيح العار.
إنه رجل على صورة مدينته ومدينة على صورة أهلها..
وبعد:
أوصيكَ يا والدي دائمًا
حين تمتدُّ أرض السواحل عاريةً
أو يكثر الجند حولكَ
كن في امتداد السهول كجبلْ
وكن أنت دولتكَ العاليةْ
حين تسقط خلفك كل الدّولْ