لا يعدم قارئ التاريخ أن يرى بين سطور أدبياته عبارة من قبيل، وقد كانت تكلفة هذا الانقلاب الذي أزاح فلانا (رئيس الوزراء الإيراني مصدق على سبيل المثال) من الحكم عدة (أو خمسة) ملايين دولار تحملتها (الولايات المتحدة) في وقتها ثم عوضتها من أرباح شركات البترول الأميركية التي استعادت امتيازاتها في إيران.
وربما نجد نموذجا آخر للحديث عن تكلفة الانقلاب الذي جاء بحزب البعث العربي إلى الحكم في دولة من دول البعث، وذلك من أجل كسر أو إنهاء تقدم كاسح حققه الشيوعيون والمتحالفون معهم في ذلك البلد، وفي أحيان أخرى تجد هذه التكلفة قد دفعت عن طيب خاطر من أجل إتمام ثأر شخصي ممن تم الانقلاب عليه، كما هو الحال في الجنوب العربي.
وفي هذا الإطار من الطريف أن نشير إلى ما تأخر نشره عن تمويل القذافي لانقلاب زين العابدين بن علي على بورقيبة.
في جميع الأحوال فإن هناك تكلفة لإحداث الانقلاب أو بدئه، ولأن الانقلاب عمل استثنائي لم يكن موجودا في الخطة أو الموازنة، فلا بد من تمويل هذا الفعل الذي أصبحت تكاليفه مع الزمن في ازدياد، لكن تكلفة إحداث الانقلاب "أصبحت لا تقارن بما هو مطلوب من أجل تثبيت أو بقاء أو استمرار الانقلاب "، وهو ما أبانت عنه الأحداث بكل وضوح في الانقلاب العسكري في مصر.
ولا يقف هذا التثبيت عند تكلفة استخدام القوى المتعددة في محاربة معارضي الانقلاب، ولكنه يتعداه إلي آفاق أخرى، فقد كان من النتائج الفورية للانقلاب أن اختلت موارد هذا البلد الكبير الذي يعتمد على السياحة وعلى دخول وتحويلات العاملين في الخارج، وهو ما ظهر أثره بصورة فورية في نقص السيولة واختلال ميزان المدفوعات والميزان التجاري، ثم في سعر صرف الجنيه في أسواق العملات الحرة.
وهو أمر متوقع جزئيا ترتب عليه أن أصبحت الدولة في حاجة إلى سيولات متعددة لم يكن ممكنا أن تغطى كلها بطبع المزيد من أوراق البنكنوت، رغم أن هذا قد حدث بالفعل وعلي نطاق مكثف, ومن ثم بدأ الحديث الصريح عن أن ثلاثة بلدان عربية مهتمة ببقاء الانقلاب ستمول مصروفات الانقلاب ونفقاته وأزماته.
ولم يقف الأمر عند الأيام الأولى، وإنما تعداه في الأسابيع التالية والمتتابعة إلى المعارك العسكرية الانقلابية الشهيرة التي رأى الانقلاب نفسه بحاجة إليها في نادي الحرس الجمهوري ورابعة والنهضة ورمسيس وجامع الفتح ومحمد محمود ودلجا وكرداسة.. إلخ.
وقد تواترت الروايات التي تحدثت عن تمويل فرق خاصة من المرتزقة للمساعدة في فض اعتصام رابعة العدوية على سبيل المثال، وهو ما استطاع كثيرون التأكد منه من خلال أداء هذه القوات الخاصة الأجنبية وأحجام وأطوال المنتمين لها الذين شاركوا بكل فجور وقسوة وتشف في فض الاعتصام على نحو ما هو معروف.
وتطورت "بسرعة" الحاجة التي كان من المفترض أن تكون فورية أو وقتية لتصبح حالة مزمنة تقتضي وجود قوات الجيش إلى جانب قوات الشرطة في الشوارع والميادين والتجمعات السكنية، بل تطور الأمر لتصبح هذه القوات مسؤولة تماما عن السيطرة على الطرق العامة والسريعة وعن الدخول منها والخروج إليها.
ولم تتوان الأمور عن التطور في اتجاه التحول التام إلى ثكنة عسكرية كبيرة تظهر عليها مظاهر السيطرة بطريقة إيحائية بأكثر من أن تكون موضوعية, أي أن هذه السيطرة البارزة على المحاور والتجمعات سرعان ما أصبحت هدفا في حد ذاته للإيحاء بالسيطرة التامة للقوات المسلحة على الوضع وعدم سماحها باختراقه، وانتصر هذا الهدف الإعلامي الإيحائي والرمزي على الهدف الطبيعي أو المطلوب من مثل هذه السيطرة، ولم يكن في هذا غرابة، ذلك أن الهدف من تحرك الجيش وقواته لم يكن مواجهة عدو خارجي أو متغلغل، وإنما كان إرهاب وتخويف شعب ثائر ومتململ.
ومع مرور الزمن تطورت الأمور لتصبح الواقعية المصنوعة (!!) في صورة أكثر تعقيدا من حيث الكلفة الاقتصادية للاقتصاد، وأصبحت الظروف الوقتية بمثابة محددات ثابتة ومسيطرة في الوضع العام للوطن تحت حكم الانقلاب العسكري، وتجلى هذا في عدة محاور لم تكن متوقعة، ولم تواجهها من قبل قيادات الانقلابات القديمة، ولم يتوقع منظرو الانقلاب الجديد أن تكون مثل هذه العوامل المستترة بمثل هذه السرعة والصعوبة.
ويمكن لنا أن نعدد بعض هذه العوامل بصورة سريعة تحمل الدلالات على طبيعة ما حدث وما يحدث، وربما تحمل أيضا الدلالات على ما يمكن أن يحدث أو يكون قد حدث ولم يعلن.
أولا: اهتزت صورة الاقتصاد الانقلابي على نحو لم يكن متوقعا أن يصل إلى هذه الدرجة، وقد وجد الانقلاب نفسه مضطرا إلى أن يرحب باهتزاز الصورة بدلا من أن يسعى بجدية لإصلاحها.
وتجلى هذا بوضوح شديد في توقف الحكومة عن سداد ديون معينة لم تكن قد توقفت عن سدادها قط في ظل حرصها السابق وخبرتها بأن توقفها عن سداد هذه الديون خاصة يجلب عليها صورة سلبية في التصنيف الائتماني على مستويات يصعب تحويرها أو التلاعب الإعلامي بدلالات أحكامها التصنيفية، وكان من الطبيعي أن تتطور هذه الصورة خارجيا في الاتجاه المتوقع حتى إن كانت الدولة بسيطرتها على الإعلام قد نجحت في إيقاف تدفق المعلومات الدقيقة عن هذا التدهور الانطباعي القائم على أدلة لا تقبل النقض.
ثانيا: واجهت سلطة الانقلاب قرارات معلنة من كثير من دول العالم المتقدم بمنع السياحة وتحذير مواطنيها من السفر إلى هذا الوطن المصري الذي لم يعد قادرا على الوفاء بالحدود الدنيا من متطلبات تأمين السياحة.
وكانت حكومة الانقلاب من الحماقة بأن تبث ما أسمته الحرب على "الإرهاب" على شاشاتها وشاشات الفضائيات الممولة من الدول الداعمة للانقلاب، وهكذا لم يعد في وسع أي مسؤول متعقل ومتزن (فضلا عن أن يكون متحفظا) في أي وزارة أجنبية أن يحاول التفاوض مع حكومته في شأن تأجيل إعلانها عن تحذير مواطنيها من السفر إلى مصر.
ومع هذا تنامى حرص الحكومة الانقلابية الجوهري والمبدئي على تجديد مخاوف المواطنين من الإرهاب وكسب تعاطف دولي بحجة أنها تحارب الإرهاب بما أسس لتغذية دائبة لفكرة سوء الوضع الأمني في مصر.
وبدأت حكومة الانقلاب مرة أخرى تفضل الكسب الدعائي على الكسب الاقتصادي، وكانت في هذا التفضيل منطقية بالطبع، فبقاؤها أهم بكثير من سلامة اقتصاد البلد مهما كان حجم المعاناة الاقتصادية الناشئ عن مثل هذه التغذية المتجددة من آن لآخر للشعور بالإرهاب.
ومع أن المنطقي في مثل هذه الأمور أن يصرخ وزير السياحة بحاجته إلى الكف عن مثل هذه السياسة أو تقليل آثارها العملية، فإنه لم يتمكن من الصراخ لأن السياسة تعلو على السياحة بالطبع.
ثالثا: مع حرص الحكومة الانقلابية على تصوير درجة ما من الاستقرار الحكومي والبيروقراطي بدأت في الاندلاع المحسوب موجة مباشرة من المطالب الفئوية التي كانت من أسباب ثورة 25 يناير، ثم كانت أبرز التحديات التي واجهت هذه الثورة.
ورغم أن أي حكومة انقلابية لن تسلم بهذه المطالب الفئوية، فإن بعض هذه المطالب يتطور في اتجاه لا تطيق معه الحكومة إلا أن تضحي ببعض المال حتى لو كان ورقا مطبوعا، ذلك أنه يستحيل على أي حكومة أن تتجاهل هدير عمال النسيج بأعدادهم الضخمة في المحلة أو غيرها، ويستحيل على أي حكومة أن تتخطى النظر في إجابة ضغوط عمال مصانع الحديد والصلب أو في محاولة لترضية العاملين في مرفق النقل العام.
ومن العجيب أن بعض هذه المطالب الفئوية ازداد رنينه وضجيجه بسبب سياسات انقلابية لم تكن موجودة من قبل، ومن هذا أن الانقلابيين أوقفوا السكك الحديدية لشهور، وهكذا أضافوا من حيث لم يتوقعوا بعدا جديدا في إحساس العاملين بمشكلاتهم، وهو ما أضاف على تعقيد وتعقد مشكلات عمال النقل الذين اكتشفوا فجأة أن الحكومة قد تلغي مرفقهم تماما، ومن الطبيعي أن الصراع ضد إلغاء الوجود يفوق في حدته الصراع من أجل رفع الأجور.
رابعا: واجهت السلطة الانقلابية من حيث لم تكن تحتسب درجة كبيرة من حسابات الفشل ترتبت على سوء اختيار الانقلابيين لوزراء الحكومة، ومن الثابت أن الانقلابيين واجهوا وضعا صعبا حين شكلوا حكومتهم بسبب إحجام المرشحين عن تكرار التجربة الأليمة التي مر بها أقرانهم طيلة عامين ونصف من تداول السلطة بين قدامي ومحدثين، مع العودة إلى هؤلاء وهؤلاء بطريقة عشوائية، لكن الانقلابيين مع هذا فشلوا في الحصول على وزراء اقتصاديين قادرين على التحكم في دورة الأموال.
ومن العجيب أن السبب في هذا الفشل لم يكن النقص، وإنما كان كثرة الاقتصاديين في الوزارة، وهي كثرة فاقمت من ضعف قدرتهم وأظهرت عجزهم، فكيف لوزير المالية على سبيل المثال أن يبدع أو يلجأ إلى حلول جديدة بينما رئيس الوزراء اقتصادي ووزير سابق للمالية، وكذلك نائب رئيس الوزراء الذي آثر ألا يتعب نفسه في تولي وزارة المالية أو الاستثمار، وفضل على هذا أن يكون وزيرا للتعاون الدولي فحسب.
وبالإضافة إلى هؤلاء الرجال الذين أصبحوا يمثلون مشكلة في التفكير قبل المضي في أي طريق غير تقليدي، فقد وجدت حكومة الانقلاب نفسها ممولة بوزير للتموين ليس إلا رجلا مسنا من رجال شرطة التموين، وبوزير للتجارة والصناعة فرضته الحصة الطائفية للأقباط بعدما رفضته وزارتان أخريان، وبوزير قديم للتخطيط مشغول بالطبع بأن يصفي حساباته بعد خروجه المفاجئ، وبوزير قديم للزراعة يعاني من نفس مشكلة وزير التخطيط.
والأنكى من هؤلاء جميعا وزير يتمتع بقدر كبير من العقد وهو وزير الشؤون الاجتماعية، وقد جاء ليواجه بطريقة خاطئة وغبية المشكلات التي أوجدها هو نفسه حين كان وزيرا للقوى العاملة، ولينقلب على الليبرالية التي زعم إيمانه بها بأسوأ وأقسى أنواع الديكتاتورية.
خامسا: بدأت السلطة الانقلابية تواجه تراكم المصروفات المؤجل سدادها من تمويل للأمن وعملياته الواسعة ولإرهاب الدولة وتسليح أجهزتها، وتجديد لوجستيات الأمن والشرطة والأجهزة المناظرة هنا وهناك، كما بدأت تواجه حاجتها إلى صرف مكافآت خاصة للذين أظهروا قدرات عالية على تحدي رغبات الشعب وتطلعاته إلى الحرية والديمقراطية، كما بدأت تواجه حاجتها الملحة إلى إعادة التعبئة تحسبا لمعارك قادمة لو خسرت أحداها فسوف تخسر كل شيء.
سادسا: بدأت الآثار السلبية لتوقف المصانع بما فيها المصانع الخاصة والعائلية والفردية تؤثر على الموازنة العامة ومواردها وتوازنها بدرجة لا تحتاج إلى التفصيل.
سابعا: بدأت أعباء فاتورة الواردات (في بلد يعيش في تلبية احتياجاته الغذائية على الاستيراد بدرجة كبيرة) تلقى بظلالها في الحسابات الختامية لموازنة العام الذي بدأ الانقلاب سلطته معه، أي في يوليو/تموز ٢٠١٣، وبحكم التقاليد الدفترية والمحاسبية والنصوص الدستورية والقانونية فإن مارس/آذار على وجه التحديد يمثل بداية ظهور الآثار النقدية والتحويلية والتضخمية في العام الذي انصرف ثلاثة أرباعه، كما أنه يشهد بدء الإعداد للموازنة الجديدة التي تبدأ في يوليو/تموز التالي ويتطلب إعدادها البحث (النظري) في مصادر تمويلها حتى لو بالعجز أو الاستدانة الداخلية (أو الخارجية) وأن يتبلور هذا البحث مع مارس/آذار على وجه التحديد.
وليس سرا أن حكومة الانقلاب وصلت إلى أرقام غير مسبوقة في الاستدانة وعطاءات أذون الخزانة وما إليها من وسائل التمويل التي لم تلجأ إليها مصر من قبل، حتى في وقت الحرب.
ومع هذا فإن ما هو متوقع من ارتفاع صاروخي في مثل هذه الأرقام لا يقف عند حد، خاصة أن أحدا من الذين يزعمون أنهم لن يتخلوا عن الشعب المصري يكتفون بمثل هذا التصريح ويمصون الشفاه وهم يستمعون إلى حجم المشكلة مكتفين بالقول بأن مصر تضم تسعين مليونا, وفاتهم عن قصد أن الصين تعدت هذا الرقم منذ زمن بعيد وجعلت منه أكبر ميزة اقتصادية في تاريخ العالم.