في عالم يضطرب تحت قعقعة الإرهاب فان من المنطقي ان تبادر الدول لمحاصرة الظاهرة سواء بالإجراءات الامنية المشددة ام بث ثقافة التصدي للعنف غير المبرر، ام بتشديد العقوبات والإجراءات القضائية ضد من يمارس الارهاب. هذا امر منطقي لا يستطيع عاقل الاعتراض عليه.
وقد كانت الحرب ضد الارهاب التي تصدرتها الولايات المتحدة الامريكية قبل اكثر من عقد من الزمن قرارا املته الظروف، وكان على المعنيين به البحث عن مصاديق حقيقية للارهاب المستهدف والالتزام بالقانون في التصدي لمريديه ومروجيه. ولكن المشكلة تكمن في تسييس الظاهرة او تشويش مفهومها او الخلط في استكشاف مصاديقها، او المساومة على مكافحتها بغض الطرف عن مموليها وداعميها ومروجي الفكر الذي يشجعها، او تمويل القائمين بها. فهذه الاعتبارات تؤدي الى تمييع تعريف الظاهرة وبالتالي، فبدلا من القضاء عليها من خلال توافق دولي حول تعريفاته ونظرته لها، وجد بعض مروجيها فرصة ليس من الافلات من العقاب فحسب، بل التأثير السلبي على التحالف الذي اعلن حربه عليها، وتشويش مفاهيمها والهزيمة امام الجهات التي تستخدم الارهاب سلاحا من اجل بقاء انظمة حكمها او تسجيل نقاط ضد خصومها. انها مشكلة متداخلة تزداد تعقيدا مع بروز ظواهر غير مشجعة من الدول الغربية الكبرى التي يفترض انها قد حسمت امرها وقررت القضاء على ظاهرة الارهاب الاعمى الذي تنفذه مجموعات سرية وعلنية وتموله دول معروفة.
واذا كان هناك ما يشبه التوافق على الظاهرة وتعريفها (وان بشكل فضفاض) في السنوات العشر الاولى التي اعقبت حوادث 11 ايلول/سبتمبر الارهابية، فان ظاهرة ‘الربيع العربي’ قد فرضت واقعا جديدا على العالم يخشى ان يعمق ظاهرة الارهاب الحقيقي ويزور الحقائق المرتبطة بها، ويستهدف القوى التي كانت وما تزال ضحية الارهاب، سواء التي تمارسه المجموعات المتطرفة، ام الانظمة الاستبدادية التي ما برحت تمارس ‘إرهاب الدولة’. فما يتردد الآن في بعض العواصم الغربية عن ‘استعداد’ لمسايرة قوى الاستبداد والديكتاتورية في مشروعها الانقلابي ضد التعريفات الدولية المتعارف عليها لظاهرة العنف السياسي الاعمى، يثير قلق الكثيرين، ويهدد بانتشار الارهاب الحقيقي بسبب تشوش المفاهيم وتبدل الاولويات. وهكذا تحولت الحرب ضد الارهاب الى صراع ارادات بين رواد التغيير ودعاة الديمقراطية والمدافعين عن حقوق الانسان من جهة، وانظمة الاستبداد التي ما برحت تسعى لفرض اجندتها على الآخرين، مستغلة المال النفطي الوفير من جهة ثانية، والتلكؤ الغربي في التصدي للارهاب او ترويج الديمقراطية او الدفاع عن حقوق الانسان من جهة ثالثة. انها واحدة من الحقب التاريخية التي تتطلب جهودا دولية مشتركة لاعادة قطار الحرب ضد الارهاب الى سكته الصحيحة والضرب بيد من حديد على ايدي قوى الاستبداد التي تروج الارهاب الحقيقي.
في الاسبوع الماضي اعلنت الحكومة البريطانية انها ستحقق في وجود جماعة الاخوان المسلمين في بريطانيا وما اذا كانت مرتبطة بالارهاب، وذلك بعد ان اعلنت السعودية ان الجماعة ‘منظمة ارهابية’. وهنا يتحول السجال حول هذا المصطلح الى أزمة قيمية وسياسية. وسواء بادرت السلطات لذلك التحقيق ام اكتفت بالاعلان المذكور، فان اطلاق التصريح نفسه يعني الكثير، ويحمل في طياته ابعادا غير مريحة ترتبط بالسياسة البريطانية. فالجماعة المذكورة ليست وليدة اليوم، بل لها تاريخ تجاوز الثمانين عاما، ومرت بحقب عديدة، ولم يسجل عليها جنوحها للعنف او الارهاب. وحتى الحكومات المصرية المتعاقبة اكتفت بوصفها ‘منظمة غير مشروعة’، اي غير مرخصة، ولم تصفها بالارهاب الا بعد الانقلاب العسكري ضد رئيسها المنتخب. والمشكلة الاساسية هنا ليست في تبني العنف او الا رهاب، بل في قدرة الحركة على لملمة شملها بعد كل محنة مرت بها واستعادة موقعها الاجتماعي والسياسي. وربما المشكلة الاخطر، في نظر مناوئيها، فوزها بانتخابات الرئاسة المصرية في المرحلة التي اعقبت سقوط حسني مبارك. وحيث ان الحركة تمثل عمق ما اصطلح الغربيون على تسميته ‘الاسلام السياسي’ فان هذا الفوز كان يتضمن تحولا جوهريا في الهوية الايديولوجية لنظام الحكم في مصر واحتمال توسع ذلك ليشمل اغلب اقطار العالم العربي، نظرا لتواجد الجماعات الاخوانية. الاخوان لم يتهموا يوما بالارهاب، في ما عدا ما نسب لهم في 1954 بعد حادثة المنشية التي اتهموا فيها باطلاق النار على الرئيس الاسبق، جمال عبد الناصر.
وبرغم عدم ثبوت التهمة فان عددا من قياداتهم كان مصيره الاعدام. ولم يسجل التاريخ ان رئيسا او وزيرا ليس في مصر فحسب، بل في العالم العربي، قتل على ايدي عناصر من جماعة الاخوان. وقد دفعت الجماعة ثمنا كبيرا لسياساتها الهادئة البعيدة عن العنف، فانشقت منها في السبعينات عناصر أسست الجماعات الاسلامية، وجماعة التكفير والهجرة. وربما انخرط بعض افرادها المنشقين في تنظيم القاعدة لاحقا. اما الحركة نفسها فبقيت بعيدة عن ظاهرة العنف، وكانت في اغلب الاحيان ضحية للعنف السلطوي.
لماذا استهداف الاخوان في هذا الوقت بتهمة الارهاب برغم استحالة اثبات ذلك؟ عدد من العوامل ساهم في هذا التوجه. اولها ان صعود ‘الاسلام السياسي’ في اكبر دولة عربية كان مفاجأة غير متوقعة من قبل الغربيين الذين اعتقدوا في البداية ان الثورات ستأتي بعناصر ليبرالية عبر صناديق الاقتراع. فكان فوز الاخوان زلزالا سياسيا سيساهم، فيما لو احسنوا ادارة الدولة، في تعميق ظاهرة الاسلام السياسي الذي انطلق من ايران قبل ثلث قرن تقريبا. ثانيها: ان الاخوان يمثلون ظاهرة دينية تتسم بالاعتدال واستقطبت اجيالا متعاقبة لمشروعها الايديولوجي المؤسس على شعار ‘الاسلام هو الحل’.
وهذا يعني توسع دائرة الاسلام السياسي ليأخذ طريقه الى بلدان عربية عديدة، خصوصا بعد فوز حركة ‘النهضة’ في تونس وحزب ‘العدالة والتنمية’ في المغرب. وبهذا تتعمق ظاهرة الحكم الاسلامي في العالم العربي الذي يتشكل في اغلبه من المسلمين السنة. ثالثها: ان البعد الديني للجماعة يعني انها ليست منافسة لما سبقها من انظمة رفعت شعار الاسلام كالنظام السعودي فحسب، بل انها تمثل بديلا اسلاميا اقوى، يستطيع استقطاب الشباب ويقضي على الثنائية التي تميزت بها التجارب السابقة التي حالفت بين التوجهات السياسية للعائلات الحاكمة والتوجهات الدينية لدى مجموعات سلفية تواصل وجودها على مدى عقود واصبح لها نفوذ بين قبائل الصحراء العربية. ولهذا شعرت المملكة العربية السعودية ان صعود الاخوان الى حكم مصر تهديد كبير للنظام السياسي في الجزيرة العربية الذي مضى على وجوده ما يقرب من قرن.
رابعها: ان القرار السعودي بتصفية حكم الاخوان واسقاطهم من الحكم بدعم العسكر، ثم اعلان الرياض عن اعتبار الاخوان ‘جماعة ارهابية’ وجد اصداء له لدى الغربيين. ويعتقد ان السعودية ضغطت على الغرب لمساعدتها على تصفية جماعة الاخوان الذين اعتقل منهم الآلاف في مصر وغيرها. وكان انقلاب العسكر ضدهم دمويا بدون سابقة. فقد قتل منهم الألاف في حادثتي مسجد رابعة العدوية وساحة النهضة، واعتقل اكثر من عشرين الفا من كوادرهم.
الامر الواضح ان الهجمة الامنية الشرسة على جماعة الاخوان من قبل عسكر مصر لم تكن وليدة الساعة بل تمتد بجذورها الى ما قبل سقوط حسني مبارك. ويكفي ان كوادر الجماعة حوكمت قبيل الثورة امام محاكم عسكرية وصدرت بحقها احكام قاسية. وحين قامت الثورة تمكن اغلب هؤلاء من الهرب، ومن بينهم الرئيس محمد مرسي الذي انقلب العسكريون عليه. خامسها: ان الغربيين متحسسون جدا من المشروع الاسلامي الذي يمثله الاخوان المسلمون باعتباره موازيا لمشروعهم الليبرالي الرأسمالي، ويرون في صعود الاسلاميين تحديا لنفوذهم في المنطقة من جهة وإخلالا بالتوازن السياسي لغير صالح الكيان الاسرائيلي من جهة اخرى. ولذلك، فبرغم ما يقال عن دعم امريكي للاخوان، وقف الغربيون مع الانقلاب العسكري من الناحية العملية، وربما اطلق بعضهم عبارات ‘التأسف’ و’القلق’ تجاه التغيير السياسي عن طريق الانقلاب العسكري. سادسا: ان الغربيين حسموا موقفهم ازاء التغيير الديمقراطي في الشرق الاوسط بعد ان اتضح لهم ان نتائجه ستكون لصالح ‘الاسلام السياسي’ الذي يمثل الاخوان اهم ركائزه في المنطقة. ولتبرير ذلك الموقف المناقض للشعارات التي طالما رفعوها بترويج الديمقراطية وحقوق الانسان، اصبحوا يتحدثون عن ‘الارهاب’ برغم ان الصاعدين الى الحكم هم ضحايا الارهاب والاستبداد.
بعد هذا كله، ما الذي يمكن قوله ازاء مقولات العنف السياسي؟ هناك حقائق عديدة يجب اخذها بعين الاعتبار سواء من قبل الاسلاميين ام الغربيين من ذوي العقول المنفتحة والداعين للحرية والديمقراطية. اولها: ان الحركات الاسلامية التقليدية المتمثلة في بعدها العربي بالاخوان المسلمين لا يؤمنون بالارهاب او العنف من حيث المبدأ. والارقام المتوفرة تؤكد انهم كانوا ضحايا ارهاب الدولة التي استخدمت ابشع الوسائل لفض اعتصامي رابعة العدوية والنهضة. ثانيها: ان هناك اطرافا تؤمن بالعنف السياسي ويمارسه بعض فصائلها، وقد تحالفت مع نظام العسكر في مصر، ولم يجد العسكريون غضاضة من التحالف معهم ليستمدوا منهم ‘الشرعية الدينية’. وتجدر الاشارة الى ان التيار السلفي المدعوم من السعودية لعب ثلاثة ادوار: تحالف مع الاخوان في بداية الامر، ثم مع العسكر للانقلاب على الاخوان، ثم مارس العنف ليلقى باللوم على الاخوان. ثالثا: ان ربط بعض فصائل ‘الاسلام السياسي’ بالارهاب يمثل احد اساليب قوى الثورة المضادة التي تتغاضى عن (وربما تشجع سرا) مجموعات ‘الاسلام الجهادي’ اي التي تمارس العنف والارهاب.
بينما مضى على وجود مجموعات الاسلام السياسي في الغرب قرابة نصف قرن، ولم ترتكب يوما اعمال عنف او ارهاب. مع ذلك تعلن الحكومة البريطانية عزمها على ملاحقتها وربما مضايقتها تحت طائلة قوانين الارهاب. انه موقف مقلق جدا لانه يقلص مساحة الحرية المتاحة للعمل السياسي السلمي، ويعتبر مكافأة لانظمة القمع التي تلاحق طلاب الحرية اينما حلوا. جاء الاعلان البريطاني في غضون 48 ساعة من لقاء الرئيس الامريكي، باراك اوباما مع ملك السعودية في الرياض. ويتوقع ان السعوديين وراء التحريض ضد جماعة الاخوان في بريطانيا واوروبا، لارضاء زعماء مصر والسعودية. وثمة خشية ان تتم ملاحقة المعارضين العرب الذين يسعون، بالطرق السلمية، لوضع نهاية للاستبداد الذي هيمن على المنطقة عقودا.
ما هو الإرهاب ومن هو الإرهابي؟ الأنظمة القمعية لديها تعريف للإرهاب مختلف عما هو معمول به في العالم. فمن يعارض الاستبداد خصوصا في بعض دول مجلس التعاون يصنف ضمن ‘الإرهابيين’ ويتعرض لأبشع أصناف التنكيل. فالسلطات البحرينية مثلا سحبت جنسيات 31 مواطنا بدعوى أنهم ‘ارهابيون’، ومع أن نصفهم تقريبا يعيش داخل البلاد لم يتم اعتقالهم. فما معنى ذلك؟ ولقد لوحظ في السنوات الأخيرة أن الأنظمة أصبحت تستخدم لغة المعارضة ومصطلحاتها ولكن بدون مضامينها الحقيقية. فهي تتحدث عن الديمقراطية والانتخابات البرلمانية وحقوق الإنسان، ولكن من وجهة نظرها التي لا تتطابق مع المعايير الدولية. أن المجتمع العربي يعاني اليوم من إرهاب الدولة، وهو من أبشع إشكال الإرهاب بحق الوطن والمواطنين، وكذلك من مجموعات التطرف والإرهاب، ولكن المستهدف هم أصحاب مشروع الإسلام السياسي الذي أصبح يتحدى الاستبداد في عقر داره ويوفر بديلا حضاريا قادرا على إدارة الدولة الحديثة بعيدا عن التزمت أو التطرف أو الإرهاب. هذا المشروع يعتبر تحديا حقيقيا لأنظمة الحكم الجاثية على شعوب الأمة بدون رحمة. ولذلك يستهدف بشكل مباشر، ويتم تحريض الدول الغربية ضد وجوده المشروع في العواصم الغربية، ويستهدف بالإعلام لتشويه الصورة وتبرير اضطهاده. مطلوب من هذه الدول إعادة النظر في مواقفها لكي تصل إلى نتيجة منطقية بان مصلحة العالم اليوم ومنطقة الشرق الأوسط بشكل خاص تقتضي التخلص من الاستبداد والديكتاتورية وإقامة أنظمة حكم مؤسسة على حكم القانون، تختارها شعوبها وتمارس دورها وفقا لدساتير مكتوبة ومقررة من المواطنين في استفتاء مفتوح. أما إفراغ المصطلحات من مضامينها واستهداف ذوي الدعوات السلمية بدعاوى الإرهاب، فيجب أن ترفض تماما. العالم يعاني من إرهاب حقيقي مصدره أنظمة الاستبداد والمجموعات المسلحة التي تدعمها. كما يساهم الاحتلال والهيمنة الأجنبية في ترويج ظاهرة الإرهاب والعنف لتوفير مبررات لاستهداف المعارضين وعشاق الحرية والمطالبين بالديمقراطية. انه انقلاب على المفاهيم والقيم والأخلاق، يستدعي المقاومة والتصدي لمنع سقوط امتنا في هاوية الظلم ومستنقع الديكتاتورية والجريمة الرسمية المنظمة.