لم تكن الأزمة في الاستعمار كما استسهلنا أن نقول في محاولة لخداع التاريخ وخداع أنفسنا، وأبعاد الشبهة عن السلوك العربي الغارق حتى اللحظة في حروب الردة وصراع القبائل على السلطة على حساب الأوطان التي تدمر، نحن الأمة الأكثر ضعفا والمدعاة لسخرية العالم وشفقته، أمة فشلت في إدارة نفسها ومواردها بل أهدرت هذه الموارد وقتلت أبنائها وألقت بهم إلى أرصفة المهاجر.

وفي لحظة التاريخ القائمة بتنا أمة تتنازعها ثلاث قوى في الإقليم.. إسرائيل وتركيا وإيران تلك الدول الثلاث غير العربية تمكنت من تحقيق تقدم كبير وسجلت لنفسها مكان بين الأمم وبقينا نحن نقلب عجزنا ونراوح في أزمة تعيد إنتاج أزمات لا نهاية لها إلى الدرجة التي دعت كاتبا عراقيا أن يصف العرب بأنهم هنود حمر التاريخ الجدد.

ولكن في ذروة الأزمة والغرق بتفاصيلها هناك أحيانا متسع للابتعاد قليلا عن يوميات الحروب والسجون والفقر ورؤية المشهد على امتداد عقود مضت عله يمكننا من رؤيته بوضوح أكبر، ففي النصف الثاني للقرن الماضي بعد أن تحررت الأوطان العربية من الاستعمار ظهرت ثلاث عواصم مركزية برز فيها الثقل السياسي العربي القادر على إعادة الاعتبار للعرب والقادر على مواجهة التدخلات الخارجية..من خلال دول المركز الثلاث التي أظهرت نوع من القوة سواء عسكرية وجيوش حقيقية أو كمراكز ثقافية من مسرح وشعر ورواية أو اقتصادية، حتى وباقي الدول العربية ظهرت كدول هامش وبضمنها الخليج العربي.

بعد الطفرة في تسعينات القرن الماضي وبدء انزياح الثقل الاقتصادي العربي باتجاه الخليج ومع تراجع تاثير القاهرة بعد اتفاقية كامب ديفيد، يبدو ان ذلك فتح شهية دول الخليج برغبتها بالتجول نحو دول مركز وسحب ثقل القرار العربي نحوها وكان لا بد من إضعاف عواصم المراكز الثلاث القاهرة ودمشق وبغداد وتدميرها، لذا تآمر الخليج ضد العراق مشاركا في الحرب ضده، أي الدور المرغوب بتحطيم واحدة من أقوى عواصم العرب وبعد أن تم ها هي تمارس نفس الدور في تحطيم دمشق وقد تم.

ليس لدول الخليج أي دور في النهضة العربية سوى إطلاق وهابية كانت مدعاة لأسوأ أنواع الكراهية والقتل والتدمير.. وهابية صحراوية قاسية وعنيفة نرى امتداداتها المترافقة مع إمكانيات اقتصادية قادرة على التبشير بها ونشرها .. لذا لم تعد الأزمة العربية فقط بإنهاء دول العواصم القومية والتي تعود بها الذاكرة للتآمر ضد عبد الناصر في اليمن.. بل بنشر ثقافة البداوة التي يراد بها بالعودة بالعرب إلى العصور الوسطى بعيدا عن الحريات والدولة الحديثة ودمقرطة الشعوب لأن في الدولة المدنية ما يشكل تهديدا على تركيبة النظم العشائرية في دول النفط، وفي الديمقراطية والتي تعتبر الانتخابات أحد تعبيراتها ما يهدد سيطرة الأسرة على موارد الدولة.

لقد حاولت دول المركز التي تحطمت إحداث نوعا من الحداثة في المنطقة العربية " العراق مثلا التي وصل بها دخل الفرد إلى ما يعادل بعض دول شمال المتوسط، وخرجت العلماء، واستفادت من العلم ، والأسوأ أن دول مركز أخرى كدمشق والقاهرة شاركتنا في تحطيم تلك الدولة التي تكفل الخليج يتحمل تبعات تدميرها ماليا.

بعد سقوط القذافي أصبحت أفريقيا أقرب لإسرائيل سواء بالتصويت في المؤسسات الدولية أو بالتعاون المباشر، وقد كشفت زيارة نتنياهو الأخيرة إلى دول أفريقيا تلك الخسارة الكبيرة بغياب الزعيم الليبي الذي كان يقدم نفسه ملك ملوك أفريقيا ويغطي بالمال تلك الدول، وكان ذلك يمنعها من التحول تجاه إسرائيل، بعده يمكن القول أننا خسرنا الجزء الجنوبي من تلك القارة .. تعود الذاكرة أيضا لسنوات قليلة كيف تكفلت قطر بقيادة الناتو بإسقاطه لتصبح أفريقيا أكثر إسرائيلية .. التاريخ العربي الحديث بحاجة إلى قراءة مختلفة..!