بقلم/ د.عاطف أبو سيف
يبدو الوضع الصحي في قطاع غزة مثار قلق دائم في ظل تردي مستوى الخدمات الصحية المقدمة للمواطنين وفي ظل الحصار المفروض على القطاع والذي يعيق ضمن أشياء كثيرة بالطبع دخول المواد الطبية ومستلزمات المستشفيات، بجانب إعاقته سفر العاملين في القطاع الطبي للمشاركة في أبحاث ومؤتمرات علمية تطور مهنتهم وخبرتهم. والوضع بشكل عام في قطاع غزة يثير الكثير من القلق، خاصة حين يتعلق الأمر بالمستقبل الذي لا يمكن التكهن به.
وقراءة التقارير الدولية، التي تصدر بين فينة وأخرى، تشعر المرء بالمزيد من فقدان الأمل في المستقبل، خاصة تلك التقارير التي تتحدث عن أن القطاع سيصبح مكاناً غير صالح للحياة مرة بحلول العام 2025 ومرة بحلول العام 2030.
وبين تقرير وآخر ثمة حقيقة لا يمكن إغفالها، بعيداً عن البكائيات ومعلقات الرثاء، وهي أن الوضع في القطاع يتدهور ويزداد سوءاً، وفيما الانقسام البغيض يواصل سرطانه في جسد المشروع الوطني، وفيما النقاشات الحزبية التي تنجح الأجندات الحزبية في السيطرة عليها هي فعل السياسة الأول عندنا، فإن المواطن يظل هو الضحية الأكثر ألماً والأقل تعبيراً عن الألم. حتى حين خرج الناس للتظاهر ضد انقطاع التيار الكهربائي وليس ضد أحد، جوبهوا بالكثير من الصلف والخشونة والتكفير والتخوين. عموماً إن قدر الإنسان هو أن يكون ضحية جشع الآخرين، وهذا ليس باب القصيد في هذا المقال. إذ إن الوضع في قطاع غزة بشكل عام بحاجة للكثير من المراجعة والتأمل حتى لا يصبح القطاع في خبر كان كما تقول العبارة الدارجة.
وبالعودة إلى الوضع الصحي، فإن المؤكد أن الحديث عن جودة الحياة يدور بالأساس حول الوضع الصحي للمواطنين. وربما يصح القول: إن جل السياسات العامة لأي سلطة أو حكومة هي توفير الخدمات الصحية الملائمة؛ لأن الصحة هي أساس حياة الإنسان، فيما يمكن اعتبار الكثير من الخدمات جزءاً من الترف، خاصة في ظل غياب شروط الحياة الصحية. والدولة التي تعجز عن توفير مستوى معين ومعقول من الخدمات الصحية بالطبع هي دولة آيلة للسقوط؛ لأنها لا تستطيع تأمين حياة مواطنيها. ولا يمكن أن تكون غزة استثناءً في ذلك، فالوضع الصحي في غزة وتفشي الأمراض بات أمراً مقلقاً.
يمكن ربط انتشار الكثير من الأمراض الخطيرة بالطبع بمخلفات الحروب البربرية التي شنها الاحتلال ضد شعبنا في غزة، وهي حروب استخدمت فيها كل أنواع الأسلحة المحرمة دولياً وبلا رحمة وبكثافة عالية، بل إن التقارير الدولية أثبتت ذلك وتحدث بعضها عن استخدام الفوسفور في هذه الحروب. وبشكل عام فإن غياب وجود المعامل المخبرية المتخصصة في فحص هذه المواد يعيق عملية تأكيد الربط بين الأمراض المنتشرة وبين القنابل الإسرائيلية، وبالتالي يعيق العدالة المستقبلية التي يجب جلب كل القتلة أمامها في محكمة الجنايات الدولية. لكن رغم ذلك فإن هناك الكثير الذي كان يمكن فعله من أجل تقليل المخاطر الصحية في القطاع.
إحدى أبرز هذه القضايا الصحية في قطاع غزة هي قضية شراء الخدمة أو ما يعرف بين الناس بالعلاج في الخارج. بداية علينا أن نقر بالدور الكبير الذي تقوم به الدائرة في خدمة سكان قطاع غزة والمعاناة التي يعانيها العاملون فيها وهم يوفرن هذه الخدمة. لكن ما أناقشه هنا التقصير في تطوير الوضع الصحي حتى يصبح شراء الخدمة أمراً ضرورياً وعند الحاجة فقط. فالسلطة تدفع مئات ملايين الدولارات للمستشفيات المصرية والإسرائيلية والأردنية والمستشفيات الخاصة مقابل تحويل المرضى من فلسطين إلى هذه المستشفيات. استنزاف متواصل للمالية العامة في أموال كان يمكن استخدامها في بناء عشرات المستشفيات المتخصصة التي سيكون وجودها علامة من علامات التطور والبناء.
لا أحد يعرف لماذا لم يتم حتى الآن بناء مستشفيات متخصصة في كل حقول الطب البشري لمعالجة كل الأمراض بدلاً من تحويل كل مريض إلى المستشفيات الخاصة أو المستشفيات المجاورة وتقوم السلطة بالدفع مقابل الخدمة. لا يوجد في غزة مستشفى متخصص واحد بالأمراض التي يتم التحويل فيها. حتى أن التحويلات تتم في أمراض بسيطة وعادية وقد يصاب المتابع بالخيبة إذ راجع الأمراض التي يتم التحويل على أساسها. بالطبع السلطة في رام الله هي من يدفع كل شيء يتعلق بالقطاع الصحي والتحويلات لمرضى قطاع غزة.
القضية الأخرى التي يجب على أحد المسؤولين أن يجيب المواطن عنها هي قيام السلطة بالتحويل إلى مستشفيات خاصة. هل من المعقول أن السلطة بكل جبروتها لا تستطيع أن تقوم بتوفير خدمة مثل تلك التي يوفرها القطاع الصحي الخاص. فالقصة بالطبع لا تتعلق بإعاقة إسرائيل دخول المواد الطبية أو مستلزمات بناء المستشفيات، إذ إن المستشفيات الخاصة متطورة أكثر من المستشفيات العامة. هل من المعقول أن تنتشر المستشفيات الخاصة ولا تزدهر المستشفيات العامة. الأمر بحاجة للكثير من العمل والقليل من العقل. وحين يتعلق الأمر بغزة فهو بحاجة لعمل أكبر حيث إن القطاع الصحي لم يتطور منذ أكثر من عقد من الزمن، وتعرض للكثير من الضربات والنكسات.
تخيلوا أن تقوم بعمل قسطرة على حساب السلطة في مستشفي خاص في غزة. هل الحكومة ليست قادرة على أن تقوم بتطوير قسم خاصة للقسطرة يعفيها من دفع الملايين سنوياً مقابل شراء هذه الخدمة. هل من المعقول أنه بات أسهل للسطة أن تدفع المال العام مقابل شراء خدمة متوفرة في القطاع الخاص بدلاً من أن تقوم هي بتطوير قطاعها الصحي وتوفر على نفسها وعلى الشعب الكثير من الأموال التي تذهب في المسار الخطأ.
عموماً، المؤكد أن ثمة الكثير من القضايا التي هي بحاجة لنقاش في هذا السياق حتى نستطيع تطوير سياساتنا العامة بما يتوافق مع النظرة الصحيحة للمستقبل، المستقبل الذي علينا ألا نجازف بالذهاب إليه مكتوفي الأيدي.