أدعو إلى التفكير مرة ثانية في مقصود الحرب على الإرهاب قبل أن نكتشف أننا تورطنا في حرب على الجبهة الغلط.
(1)
قبل أي كلام في الموضوع ينبغي أن نعترف بأنها فكرة عبقرية، لا أعرف الأبالسة الذين أطلقوها، ولكني أشهد بذكائهم الذي جعل الإرهاب عنوانا لزماننا وسلطوا علينا تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، ليكون برهانا عليه يستنفر الأمة ويؤجج مشاعر النفور والغضب في جنباتها، وللأمانة فإن الجماعة لم يقصروا في خدمة مخطط الأبالسة، لأنهم ما برحوا يقدمون للعالم -بالصوت والصورة- الأدلة التي تسوغ المسارعة إلى الخلاص من شرورهم.
حتى الآن، فإن مشروع داعش كما هو ماثل أمامنا يوجه إلينا حزمة من الرسائل يمكن اختزالها في العناوين التالية "في الفراغ المخيم، فإن نذر الإعصار وشراراته بسبيلها لأن تهدد الجميع ولن يستثنى من ذلك أحد"، "انسوا الربيع والديمقراطية وأحلام التغيير والإصلاح السياسي فليس هذا وقت الحديث عن شيء من ذلك"، "العنوا اليوم الذي ظهر فيه الإسلام السياسي وابتلينا بالدولة الإسلامية وأطل علينا فيه وجه الخلافة"، "الدفاع عن الوجود يستلزم التمترس وراء الأنظمة القائمة والرضا بما هو سيئ منها لأن البديل أسوأ وأتعس"، "لا يحدثنا أحد عن فلسطين، فقد صارت الحرب ضد الإرهاب قضية العرب المركزية"، "في حسابات الظرف الراهن فإن إسرائيل لم تعد عدوة ولكنها حليفة في مواجهة خطر الإرهاب المشترك"، "الشغل الشاغل وجوهر القضية المركزية هما كيف نحصن العالم العربي ونخلص المنطقة من الوباء الذي ضرب سوريا والعراق"، "الدور الأميركي والقوة الأوروبية والقواعد العسكرية الأجنبية مرغوبة ومطلوبة بشدة لوقف تقدم الإعصار الذي تعجز القوة العربية عن التصدي له".
(2)
الثابت أن الأنظمة العربية لم تتسلم الرسائل فحسب، ولكنها احتفت بها أيضا، بدليل أنها انضمت بسرعة إلى ركب المستنفرين، وقدمت إلى الحملة ما استطاعت إليه سبيلا، من النفقات إلى التسهيلات والقواعد والتدريبات، إضافة إلى كل متطلبات التجهيز والتعبئة.
ذلك أن عنوان "الإرهاب" الفضفاض أتاح لكل طرف أن يجد لنفسه مكانا تحت رايته، ووفر فرصة ذهبية لكل نظام لكي يتخلص من معارضيه وهو مطمئن إلى السند والغطاء، حتى إسرائيل دخلت على الخط وادعت أنها بدورها من ضحايا الإرهاب الذي تتهم به كل مقاومة للاحتلال، وصارت آية الاعتدال الوحيد عندها تتمثل في القبول بما يسمى التنسيق الأمني مع أجهزتها لحصار المقاومة وقمعها.
وتابعنا في الإعلام الإسرائيلي مؤخرا جدلا حول ما إذا كانت حركة حماس وجها آخر لداعش أم لا (جريدة "الشروق" نشرت في 19/9 ترجمة لمقالة الدكتور تسفي برئيل -خبير الشؤون العربية في "هآرتس"- تحت عنوان "حماس ليست داعش".
أدري أن صدمة الصعود المفاجئ كانت كبيرة، وأتفهم المسارعة الإقليمية والدولية إلى محاولة التصدي لها وإجهاض مخططاتها، كما أنني أتفهم سعي الأنظمة العربية إلى الانخراط في الحشد ورفع لواء الحرب ضد الإرهاب رغم أن كل طرف كان له تفسيره الخاص للإرهاب، وبعض تلك التفسيرات ينطلق من حسابات داخلية لا علاقة لها بداعش وطموحاتها.
لكن ما أستغربه حقا أن تتحول الحملة إلى لوثة تحتكم إلى الانفعال والحسابات السياسية وتلغي أي تفكير معمق في الموضوع يتحرى خلفياته ويسبر أغواره، ذلك أن داعش ليست فقط جماعة انشقت عنها الأرض فجأة، وساعدتها عوامل عدة على الانطلاق والزحف لإقامة الدولة وإعلان الخلافة، وإنما هي قبل ذلك وبعده فكرة لها جذورها التي تجاهلها كثيرون، نمت في بيئة مواتية لم تنل حظها من الرصد والتحقيق.
ملاحظتي هذه موجهة إلى عناصر النخب بالدرجة الأولى -في مصر بوجه أخص- الذين غرقوا في الاستقطاب حتى تخلى أغلبهم عن دورهم البحثي والتنويري، وفوجئنا بأنهم توزعوا على مواكب المهللين والمتصيدين والمرشدين الأمنيين.
إننا لا نحتاج إلى عقل رشيد لكي نكيل الهجاء لداعش، ونتهم كل من لا يعجبنا بأنه داعشي الهوى يكتم انتماءه، كما أنه بمقدور أي أحد أن يدعو إلى إبادة التنظيم وكل من انتسب إليه، لكننا سنحتاج إلى ذلك العقل الرشيد لكي نصل إلى جذور الفكرة لنقتلعها ولكي تدرك البيئة التي استنبتتها لكي نطهرها وننقيها، حتى لا نفاجأ بالداعشية تطل علينا من منافذ أخرى، وظني أن النخب التي لم تفقد توازنها هي الأكثر تأهيلا للقيام بهذه المهمة.
(3)
لدي اجتهاد متواضع في هذا الصدد، لا أدعي أنه يجيب عن الأسئلة المتعلقة بفهم الظاهرة وتقصي جذورها، لكنني أعتبره دعوة لفتح باب المناقشة حول الموضوع.
ذلك أنني أزعم أن الداعشية لها جذورها في المذهب الوهابي، تم استدعاؤها وإنضاجها في ظروف الظلم والقهر التي عاش في ظلها العراق طوال السنوات العشر الأخيرة.
أستشهد في تحرير النقطة الأولى بمقالة مهمة كتبها أحد الباحثين السعوديين الجادين وهو الدكتور خالد الدخيل -أستاذ العلوم السياسة بجامعة الملك سعود- وقد نشرتها صحيفة الحياة اللندنية في 21/9 الحالي تحت عنوان "مراجعات الوهابية تأخرت كثيرا"، إذ أشار فيه إلى التشدد الذي اتسمت به الحركة الوهابية، والذي كان من سماته رفض الآخر والتسرع في تكفيره، وهو ما أرجعه إلى ظروف سياسية واجتماعية تم تجاوزها.
وفي هذا السياق، ألقي السؤال التالي: هل تطرف داعش واستناده إلى نصوص وهابية يعني أن الأخيرة امتداد للأول ومسؤولة عنه؟ وفي السؤال إشارة واضحة إلى أن أدبيات الدولة الإسلامية (داعش) استعانت في بناء رؤيتها النظرية بأدبيات الحركة الوهابية التي انطلقت في الجزيرة العربية في القرن الـ18 الميلادي، وهو إذ ينفي أن تكون داعش بتطرفها ووحشيتها امتدادا للحركة الوهابية إلا أنه ذكر أن "أهم ما تمخض عنه ظهور داعش على المستوى المحلي هو ما يبدو أنه بداية مراجعة فكرية لأدبيات الحركة الوهابية التي تأخرت كثيرا، لكنها يجب أن تستمر وأن تتعمق".
هذا الكلام الشجاع يسلط الضوء على خلفية الظاهرة التي لم تحظ باهتمام كثيرين ممن تنافسوا في هجاء مشروعها وفي تقديم البلاغات الكيدية ضد الناشطين الإسلاميين بدعوى أنهم جميعا "دواعش"، وفضلا عن أنه يقدم نموذجا للدور المسؤول الذي يقوم به المثقف، فإنه يفسر لنا إلى حد كبير لماذا يلقى مشروع داعش ترحيبا ملحوظا في الأوساط السلفية.
في ما خص البيئة التي استدعت الفكرة واستنبتتها فالملاحظ أن هناك تركيزا على دور القوى الخارجية في إطلاقها، إذ فضلا عن الإشارة التقليدية إلى دور المخابرات الأميركية، فإن الإشارات الأخرى اتجهت صوب إيران تارة وتركيا تارة أخرى.
وليس هناك ما يؤيد الاحتمال الأول سوى أن داعش قدمت خدمة كبرى للنظام السوري من حيث إنها بالنموذج الوحشي الذي قدمته عززت فرص بقائه ولم تؤثر في استمرار النظام العراقي، وهو ما يريح إيران كثيرا باعتبارها حليفة للاثنين.
أما الاحتمال الثاني فهو مستبعد، لسبب جوهري هو أن تركيا أدرجت داعش ضمن المنظمات الإرهابية المحظورة في أكتوبر/تشرين الأول عام 2013 أي منذ عام تقريبا، كما أنها خلال تلك المدة أوقفت ستة آلاف شخص وأجرت تحقيقات معهم للاشتباه في تأييدهم أو انتسابهم إلى داعش، علما بأن عناصر المنظمة احتجزت 49 تركيا من العاملين بالقنصلية في الموصل بعد سقوطها بأيديهم، واستمر الاحتجاز مائة يوم تقريبا ولم يتم إطلاق سراحهم إلا هذا الأسبوع.
وإذا لم يكن ثابتا أو واضحا دور العوامل الخارجية فإن دور العوامل الداخلية في العراق أكثر ثباتا ووضوحا، ذلك أنني أزعم أن القهر والظلم اللذين عاش في ظلهما العراق، واللذين كان أهل السنة أكثر من عانوا منهما هما التربة الحقيقية التي استنبتت ظاهر داعش وأطلقتها.
وقد قرأت للباحث اليساري سلامة كيلة تحليلا نشرته في 18/9 الصحيفة الإلكترونية "العربي الجديد" نقل فيه عن وزراء في عهد رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي قولهم إن الرجل هو من أطلق عناصر داعش من سجن أبو غريب وأرسلهم إلى سوريا، ورغم علمي بأن الأستاذ كيلة من الباحثين المدققين فإنه ليس لدي مصدر آخر يؤيد هذا الكلام، ومع ذلك فإني لا أستبعده.
وفي ذهني تجربة المجموعة التي عرفت باسم تنظيم "التكفير والهجرة" الذي تشكل في أجواء التعذيب التي شهدتها السجون المصرية في ستينيات القرن الماضي تحت قيادة شكري مصطفى.
ودارسو تلك المرحلة يعرفون أن فكر تكفير النظام انتشر تحت التعذيب في السجون آنذاك، الأمر الذي اضطر مرشد الإخوان آنذاك إلى محاولة الرد عليه بالكتاب الذي صدر له تحت عنوان "دعاة لا قضاة".
لسنا بحاجة إلى استدعاء شواهد وأدلة المظلومية التي تعرض لها أهل السنة بعد سقوط نظام صدام حسين، فالجرائم التي ارتكبت بحقهم على أيدي متعصبي الشيعة على كل لسان.
ولست في وارد استعادة صفحات ذلك السجل الوحشي، لكنني فقط أردت أن أقول إن مظلومية أهل السنة وأي مظلومية مماثلة يتعرض لها الناس بمثابة التربة المواتية التي أتاحت لفكر داعش أن يروج وينتعش، كما أنها دفعت العشائر والقبائل السنية إلى الالتفاف حول مشروعها ومساندته، ليس قبولا به أو حبا فيه بالضرورة، ولكن باعتباره الإطار الذي أتيح لتحدي الظلم الذي تعرضوا له والقهر الذي عانوا منه.
(4)
لدي نقطة أخيرة تتعلق بالموضوع أثيرت في مصر مؤخرا، ذلك أن نقدا وجه إلى فكرة استدعاء الدين لمواجهة أوضاع اجتماعية أو سياسية قائمة، وهو ما ظهر جليا في نموذج داعش، وما ظهر قبل ذلك في تجربة أفغانستان وطالبان، وقد اعتبر ذلك النقد بمثابة دعوة إلى إخراج الدين من المعادلة لتجنب النتائج الكارثية التي ترتبت على توظيفه وإقحامه في تعقيدات المجال العام.
هذه الفكرة التي ترددت على عدة ألسنة بصياغات مختلفة تمثل قراءة انتقائية وتبسيطية للتاريخ والواقع هي انتقائية لأن استدعاء الدين إلى المجال العام لم يكن سلبيا على طول الخط، وتجربة لاهوت التحرير في أميركا اللاتينية التي أبهرت العالم في سبعينيات القرن الماضي تدل على ذلك، وقبلها تجربة اليسوعيين في الباراغواي التي ازدهرت في القرن الـ18 وتجربة رجل الدين المسيحي الثائر لاس كازاس الذي قاوم الاستعمار الإسباني في أميركا اللاتينية وانتصر للعبيد والسكان الأصليين.
وفي التاريخ الإسلامي، فإن ثورة الزنج الشهيرة في العراق ومقاومة الاستعمار في العالم العربي خلال القرنين الـ18 والـ19 كانت كلها حركات جهادية استدعت الدين ووظفته دفاعا عن الاستقلال في السودان والجزائر وليبيا، كما أن الثورة الإسلامية في إيران كانت نموذجا آخر لتوظيف الدين في مواجهة الطغيان.
أما التبسيط في ذلك الرأي فيكمن في الاكتفاء بالدعوة إلى استبعاد الدين وإخراجه من المعادلة في مجتمع يمثل الدين مكونا أساسيا فيه، ومن ثم فبدلا من توظيفه في الاتجاه الصحيح والإيجابي لخدمة المصالح العليا للمجتمع فإن الدعوة تكتفي بالدعوة إلى تقليص دوره وإضعاف تأثيره في المجال العام.
إن العامل الديني يمثل طاقة روحية هائلة يمكن توظيفها في النهوض بالحاضر والمستقبل، كما يمكن توظيفها في تدمير الاثنين، والمشكلة في هذه الحالة لا تكون في قيمة الدين، وإنما فيمن يفشلون في استثمار الطاقة التي يمثلها في تحقيق الحلم بدلا من إجهاضه، وليس من حسن التدبير أو الشجاعة الفكرية أن نلقي بتبعة فشلنا وخيبتنا على الدين.