بقلم: معن البياري
أمّا وأن الوزير السوداني، مبارك الفاضل (67 عامًا)، شديد الولع بإسرائيل، لأنها طوّرت زراعة الحمضيات في مصر، ولأن فيها نظامًا ديمقراطيًا وشفافيةً، والمسؤولين فيها يُحاسبون ويُسجنون، على ما قال، لا فضّ فوه، في مقابلةٍ (أو سهرية؟) تلفزيونيةٍ معه الأحد الماضي، أمّا وأن هذه هي عواطفه، فهذا أمرٌ يخصّه.
ولكن أن يقول إن الفلسطينيين ناكرون للجميل، و"يحفرون" (مفردتُه) للسودانيين في دول الخليج، إذ أي مدير فلسطيني في أي مؤسّسةٍ "يحفر" للسودانيين الذين يعملون معه، فإن الأمر لا يخصّه، ففي هذا الكلام السفيه قلة ذوقٍ ظاهرة، ما يستدعي سؤاله عن شواهد جعلته يستعرض علومه الواسعة هذه أمام مواطنيه، في مقابلة تلفزيونية قال فيها إنه لا يرى مشكلةً في تطبيع بلاده العلاقات مع إسرائيل، باعتباره "يحقّق مصالح السودان". لم يتحرّز وهو يقول ما يقول، ويزيد عليه إن القضية الفلسطينية أخّرت العالم العربي، وإن أنظمةً تاجرت بها. ولم يكترث بموقعه ليس وزيرًا فحسب، وإنما أيضا نائبا لرئيس الحكومة، وهو يزيد ويعيد في إطالة لسانه على الفلسطينيين، بترديد الأزعومة البالية أنهم باعوا أرضهم.
تُرى، أيّ مقاصد تجتاح دواخل هذا الرجل، وهو يخبر السودانيين بمصلحة بلدهم التي لا يدريها أحدٌ سواه، لاسيما أنه وزيرٌ للاستثمار، ويتولى، من بواباتٍ خلفيةٍ، مسؤولية الاتصالات مع الأميركان، في الإدارة والكونغرس والشركات واللوبيات والمخابرات، لتحسين علاقتهم بالخرطوم؟ ما الذي يدور في رأسه، وهو الذي ما زالت تقيم في نفسه مسألة ترشّحه لرئاسة السودان، منذ تمنّاها وباح بها، في واحدٍ من أطوار أرشيفه الحافل بكثيرٍ يبعث على الريبة، من قبيل الرقص بين المعارضة والحكم، والتمرّد على زعامة ابن عمه الصادق المهدي عائلتهما، وكذلك زعامة حزب الأمة الذي نازع عليه، ثم انشقّ عنه، وشكّل حزبًا آخر، ثم عاد إلى الحزب الأساس، وصار رئيسه، وهو الآن وزيرٌ في الحكومة الراهنة، منذ إبريل/ نيسان الماضي؟ هل توّهم مبارك الفاضل أنه شال الزير من البير لمّا أراد بيع مطلب التطبيع مع إسرائيل للسودانيين، وقد أبلغهم معاليه بأن الفلسطينيين يطبّعون، ومنهم حركة حماس التي أنشأتها إسرائيل، على ما أعلمنا من واسع درايته.
تعلّم الوزير السوداني المتحدّث عنه الثانوية العامة والمرحلة الجامعية الأولى في بيروت (الجامعة الأميركية)، والأرجح أنه، في شبابه هناك، شاهد فلسطينيين، لاجئين خصوصًا، ما يسوّغ سؤالا عمّا إذا كان قد توطّن فيه مقت الفلسطينيين، منذ تلك السنوات، قبل أن يبلغَه، لاحقا، أنهم "يحفرون" للسودانيين في دول الخليج التي لم يعمل شخصُه غير الكريم فيها... أيّ ثقافةٍ تأتّت لهذا الرجل، وهو الذي يحمل شهادةً عليا من الولايات المتحدة في الاقتصاد، والبادي أنه متيّمٌ بقصص البيع والشراء والتشاطر فيهما، الأمر الذي يدلّ عليه أنه لا يرى حرجًا في أن يناطح عمر البشير ثم يتودّد إليه، فقد ولاّه الأخير مرّة منصب مساعده، قبل أن يتشكّك في ارتباطاتٍ له، فيقيله ويحبسه، وبعد أن بدا أنه ارعوى، ها هو الآن، نائب رئيس حكومة ووزير للاستثمار، معنيٌّ برضا الأميركان، عساهم يرفعون غضبهم عن بلده، وإذا لزم لهذا الأمر تطبيعٌ مع إسرائيل، وافتئاتٌ على الفلسطينيين كيفما اتفق، وعلى الهواء مباشرةً، فلم لا، فلا حياء من أجل مصلحة السودانيين، على ما يظنّ، وقد سبقه أقرانٌ له، وزراء ومسؤولون في بلده (أحدهم وزير الخارجية إبراهيم غندور)، وقالوا في تطبيع العلاقات مع إسرائيل ما ليس منسيّا بعد، وإنْ ظلت نوبات هذا الكلام تذكّر، كل مرة، بأن الخرطوم استضافت قمة اللاءات الثلاث المغدورة. ... سقيًا للنوستالجيا كم تستحكم فينا.
نطق زميلٌ لمبارك الفاضل، وزير الإعلام ويتولى منصب نائب رئيس الوزراء مثله، إن ما قاله المذكور رأي شخصي، ولا علاقة للحكومة به، وإن السودان لن يقيم أي علاقاتٍ مع إسرائيل. هذا جيد، ولكن، ماذا عن الصفاقة التي فاض بها كلامٌ ساكتٌ (تعبير سوداني) كثير، شرّق فيه وغرّب كثيرا وزيرٌ معتبر، تشقلب كثيرًا بين مطارح ومواقف تقاطعت وتعاكست مرّات في بلاده، وها هو الآن يجرّب وثبةً لعل الخارج يلتفت إليها، عساها تنفع عندما يجدّ الجد.
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "شمس نيوز"