معن البياري
أمّا وأن رئيس مصلحة سكّ العملة في مصر، عبد الرؤوف ثروت، نفى ما أعلنته أم كلثوم نجيب محفوظ، إن قلادة النيل التي منحها حسني مبارك لوالدها بعد فوزه بجائزة نوبل للآداب في 1988، مغشوشةٌ، فإن الأمر يستحقّ تحقيق النائب العام في هذا "الغش"، مزعومًا كان أو حقيقة. لا سيما وأنه، مع استفظاع الوسط الثقافي والإعلامي المصري هذه "الصدمة" و"الكارثة"، والتي قال كثيرون إنها دليلٌ جديد على الفساد المهول في مصر في عهد مبارك، فإن ثمّة من شكّكوا في صحة ما ادّعته ابنة محفوظ، ومنهم الروائي حمدي البطران الذي اعتبر قولها هذا، الخميس الماضي، "إهانةً للتاريخ المصري".
ومن بين ردود الفعل الغزيرة على مفاجأة أم كلثوم نجيب محفوظ التي أشعلت في مصر زوبعةً كلامية عريضة، يبقى مستغربا تقريع الروائي (والنائب المعيّن) يوسف القعيد ابنة محفوظ لإفشائها هذا السر "الذي كان من الأوْلى أن يظل طيّ الكتمان"، بحسبه. وإذ يبقى منتظرًا أن تُصدر جهاتٌ عليا توضيحاتٍ رسميةً، فإن مسار "الفضيحة" (إنْ صحّت واقعة الغش) مرشّحٌ للتدحرج في اتجاهاتٍ ملتبسة، خصوصًا إذا أوفى النائب مصطفى كمال الدين حسين بما أعلنه عن نيّته التقدّم بطلب إحاطةٍ في مجلس الشعب، لمعرفة المسؤولين عن "الكارثة المهينة للدولة المصرية"، إذا لم تعلن رئاسة الجمهورية تحقيقا في الموضوع. وفي الأثناء، يرفض رئيس مصلحة سكّ العملة في مصر معاينة القلادة المتحدّث عنها، ويقول إن التي منحها مبارك للروائي الكبير سليمة، من الذهب عيار 18 ووزنها 488 غرامًا، وربما تبدّلت.
كأن نجيب محفوظ يحيي ذكرى وفاته الحادية عشرة، الأسبوع الجاري، بنفسِه، فيطرح روايةً يحضر فيها لعبُه السردي الجذّاب. تحكي ابنته إنه آثر عدم إثارة زيف القلادة التي أخذتها زوجته (الراحلة قبل شهور) إلى "جواهرجي" في اليوم التالي لتقليده بها، فعرفت أنها فضةٌ مطلية بقشرةٍ من ذهب. يقول الرواة، ومنهم أم كلثوم وأصدقاء لوالدها وقريبون منه، إنه كان لا يحفل بالمظاهر، فسيّان أن تكون القلادة مغشوشةً أو سليمة، فلم يكترث بشكوك زوجته التي انتابتها في يوم التكريم، ولا بتأكيداتها في اليوم التالي. ولم يحدّث أحدًا في الموضوع.
.. تُرى، هل هي محافظة نجيب محفوظ التي واظب عليها، وتغليبه مماشاة السلطة أيا كانت، وراء مسلكه هذا، وقد أقام على مثل تلكما المحافظة والمماشاة أبطالٌ كثيرون في أعماله (حضرة المحترم مثلًا)؟ ربما. هل هي استعادة زمنٍ مضى إلى لحظةٍ حاضرة في رواية ممتدّة السنوات، أرادها محفوظ في صمته ذاك، وفي باله أنّ لا سرّ يبقى سرًّا، ويأتي يومٌ، في مصادفةٍ ما، فينكشف، كما صار بالضبط أمر القلادة المفترض أنها قبل تسعة وعشرين عاما ذهب، ويقال اليوم إنها ليست ذهبا؟ أليس السؤال نفسه عن صحة ما قالته ابنته، في محاورة منى الشاذلي معها، أو عدم صحته، هو التباسٌ إبداعي أدبي بين ما هو واقعي ومتخيّل، بين ما تجترحه القريحة عن فسادٍ متوقع وما هو متحقّق من فسادٍ ماثل؟ أليست نوبات التنكيت والغضب، في وسائل التواصل الاجتماعي، على "سردية" أم كلثوم نجيب محفوظ، تنويعاتٍ ومتوالياتٍ سرديةً في رواية الكاتب العالمي التي ينشرها وهو غائبٌ عن الدنيا؟ ماذا لو تحقّق محمد البرادعي من قلادته، وهي الوسام نفسه الذي كُرّم به محفوظ، وأعلن أنها ذهبٌ خالص، ماذا عن قلادة أحمد زويل، لو قالت بشأنها أرملته أي شيء.. ألا يكون السياسي المعروف والعالم الشهير، في أمرهما هذا، بطلين، ولو ثانويين، في رواية محفوظ الجديدة التي تنكتب الآن؟ إذا جرى تحقيقٌ في الاتهام المعلن على شاشةٍ تلفزيونية، للدولة المصرية، وثبت أن ذلك الذهب كان طلاءً على فضة، ألا يكون محفوظ قد أبدع تحفةً روائيةً بصمته المديد ذاك؟ إذ يُقال، والله أعلم، إن متعلقاتٍ للروائي الراحل بيعت لمن بيعت لهم، فيما هي مودعةٌ لدى وزارة الثقافة المصرية لتكون (كما القلادة) من معروضات متحف نجيب محفوظ المقرّر افتتاحه نهاية العام الجاري، إذ يقال هذا، وثبت شيءٌ منه، ألا يكون محفوظ مبتكرا في روايته الجديدة، إذ يُشاركه في كتابتها مجهولون؟
.. أسئلةٌ برسم مفاجأة أم كلثوم نجيب محفوظ التي ربما تعمّدت إعلانها بعد وفاة والدتها، لمزيدٍ من الجاذبية في متابعة رواية والدها الجديدة، المنتظر أن تتوالى فصولها الشائقة.
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "شمس نيوز"