بقلم: حسين حجازي
تدخل حركات التحرر الوطني الحديثة في عصرنا غالبًا في التجربة المرة أو الصعبة، بعيد الاستقلال أو التحرر أو تحولهم إلى سلطة. وهم إذ يدخلون من هذه العتبة التي تشبه جهنم فإنهم يكونون مدفوعين إلى جانب غرائزهم الطبيعية في التنافس على السلطة، بنواياهم واعتقاداتهم الطيبة حول أحقيتهم في التفرد بهذه السلطة وجدارتهم، باعتبارهم هم الأكثر تعبيرًا عن المصلحة العامة. وقد قيل إن الطريق إلى جهنم معبدة أحيانًا بالنوايا الحسنة.
سلطة واحدة بقانون واحد ونظام واحد وسلاح واحد، ولم يشأ أن يقول وبرأس واحد ولكن هذا مفهوم ضمنيًا، هكذا تحدث الرئيس ابو مازن معرفًا ومحددًا مفهوم السلطة او المصالحة بعد طي صفحة الانقسام، حتى ليبدو سجالهم واختلافهم وتدافعهم وتنافسهم كما لوأنهم أنجزوا الاستقلال التام، أو أنهم غير مكترثين أو مبالين فعليًا بالاحتلال الذي يتربص بهم. حتى لكأننا لا ندري ولا نعرف الى الآن ان كان من حسن الطالع أن قدرَنا كان مختلفاً عن باقي تجارب التحرر الأُخرى في تحولنا الى سلطة قبل إتمام هذا التحرر، ام من سوء طالعنا ما كان.
وهكذا سوف يحدث الانقسام في تجربتنا دون أن يشبه تلك الانقسامات التي سوف يعرفونها في جبهة التحرير الجزائرية أو الحزب الدستوري التونسي أو حزب البعث السوري، لقد كان انقسامًا بلا انقسام فعلي ينتهي بعد حراب داخلية أو انقلاب إلى الحسم، أي ان يحل أحد طرفي الأزمة أو الصراع الواحد مكان الآخر. لم يحدث الإحلال أو الاقصاء ولم تنهَر السلطة أو تتوقف عن مواصلة أدائها وشكلها القديم، وكان هذا التعايش بين السلطة والانقسام هو الذي يفسر هذه الفرادة أو الاستثناء في التجربة.
هل كان هذا قابلًا للتصديق بذات المستوى من العنف والقتال يوم الرابع عشر من حزيران العام 2007 ؟ كان الاستقبال الحاشد بل غير المسبوق أمام معبر بيت حانون لحكومة السلطة الواحدة حكومة الوفاق الوطني. تفضلي أيتها السلطة وعودي لتسلم كل مقراتك القديمة، تعالي أيتها السلطة إن المدينة والشعب هنا في حالة فرح وعيد لعودتك، وليست المدينة في حالة من الاستسلام وإنما على موعد من النصر ومع فجر جديد. وداعًا إذن للانقسام الأسود البغيض ولا أسفَ على سنواته العشر العجاف. فمن هنا نبدأ من جديد وكأننا في كل مرة نعيد هذه البداية، فهذا هو شعب البأس والبؤس كما وصفه مرة شاعرنا محمود درويش.
ونعرف ولعلنا هنا على دراية واسعة في الخبرة والوعي كيف يحدث الانقسام والذي أشبه بالشجارات العائلية، وتبلغ مداها بالاحتراب الأهلي أو الداخلي. ولكن إضاءة لا بد منها اليوم على الذاكرة، والذاكرة مهمة. لا يجب ان تنسينا حتى نعرف ونتعلم كيف نتحد ونتصالح من جديد، لماذا انقسمنا على انفسنا؟ ولولا رحمة الله لكان البيت تهدم ولم يعد لنا سقف يُؤوينا، وقد حدث ما حدث قبل عشر سنوات لاننا لم نعرف كيف نعيد تركيب النظام السياسي الفلسطيني الجديد، بعد الانتخابات الديمقراطية العامة العام 2006، حين أخذ الرئيس بو مازن القرار التاريخي بادخال حركة حماس وإدماجها في النظام. وقررت «حماس» بدورها الخروج من عزلتها أو مغادرة عذريتها السابقة وبراءتها بالدخول في هذا النظام، وكانت الوردة هنا أو رودس ولكننا لم نملك الجرأة لنرقص هنا أو نقفز هنا.
هيا إذن وقد خرج كلانا مجروحًا ومضرجًا بالدماء من هذه التجربة المهولة في ترددنا وانعدام الشجاعة والجرأة في الإقدام على القفز او الرقص، رقصة «الفالس الأخير» لشوبان.
أن نتعلم هذه المرة ونعلم أنفسنا حتى لا نقول نُعلم العالم والمحيط الإقليمي المنقسم على نفسه كيف نتحد من جديد ونعيد تركيب النظام السياسي الجديد. كما لو أننا وقد أحببنا قول ذلك دوماً، طائر العنقاء الأسطوري الذي ينهض في كل مرة من الموت والرماد.
هيا اذن في القاهرة نتعلم مرة اخرى كيف نقيم هذا النظام الجديد، الذي يطفو بنا وعليه مثلما بساط الريح الذي طالما تحدث عنه عرفات. نطفو عليه وبه فوق الاحتلال ونسخر من عليه وبه من هذا الاحتلال.
وتعلمنا ونريد أن نعلم انفسنا اليوم في الطريق إلى يوم الثلاثاء القادم في القاهرة، ما يمكن اعتبارها أُم الحقائق او الدروس وهي الطبيعة القديمة او الاشكالية للتنافس او الصراع الدفين وغير الدفين، وغير المعلن بين هاتين الحركتين فتح وحماس. ان احدهما لن يستطيع ان يحل مكان الآخر، وأقول ان يرث الآخر قبل ان ينتهي الاحتلال. ولذا فان قَدَرنا هو أشبه ما يكون بالزواج العائلي، أي ان احدهما يكمل نقص الآخر في هذا التوافق او الوحدة بين الأضداد، وحذار ان يحاول كلاهما كما يفعل الأزواج قولبة الآخر أي إعادة صياغته وبرمجته على مقاسه او صورته. لأن هذا هو الشيء الفاشل ولأننا نريد هذه التعددية او الاختلاف، او كما كان يقول ماوتسي تونغ تفتح هذه الزهرات ولكن في الحديقة الفلسطينية الواحدة كما أضاف عرفات.
وثاني هذه الحقائق أن الانقسام لم يكن إثمَ او خطيئةَ طرف واحد، وإنما ارتكبه الطرفان ونحن جميعًا. وحقًا قال الرئيس ابو مازن قبل الذهاب الى القاهرة انه لن يعاتب إسماعيل هنية لأننا جميعا أخطأنا، وهذا ضروري وحاسم من اجل طهارة الذاكرة، الذي يعبر عنه العرب في مثل هذه المناسبات بالعبارة التصالحية «عفا الله عما مضى» فكلانا جرح الآخر وقال فيه ما صنع الحداد.
وثالث هذه الحقائق أن هذه الانعطافة الكبيرة التي نمر بها على جميع المستويات، إنما تفرض اليوم على كلا الحركتين الخروج الآن أو لعله التجاوز السريع لآثار الانقسام، على صعيد التفاهم وإعادة تركيب النظام الجديد، الى الاتفاق على الرؤية الاستراتيجية للعمل الفلسطيني في مرحلة ما بعد إنهاء الانقسام والعودة الى غزة. باعتبارها هذه العودة بمثابة الأرض الوحيدة او القطعة الوحيدة شبه المحررة من الوطن، والتي يمكن ان تحسن بل تقوي من شروطنا في الصراع مع الاحتلال، لكي تكون رام الله وغزة على قلب الرجل الواحد او الاستراتيجية الواحدة، بعد ان بدت غزة لوقت بالنسبة لرام الله كأنها كعب أخيل او البطن الرخوة، والثغرة التي يمكن النفاذ منها، لمن يفكرون بالالتفاف على المشروع الوطني القائم على حل الدولتين.
أما رابع هذه الحقائق فإنها تتمثل في قدرتنا على النجاح في تعليم أنفسنا تأصيل هذا المفهوم المؤطر للنظام والاستراتيجية الفلسطينية الجديدة، أي مفهوم الشراكة. وذلك على قاعدة تبادل او توزيع الأدوار او التقاسم الوظيفي في إطار من الرؤية او اتجاه شامل للاستراتيجية، سواء في ممارسة السلم او الحرب. والقبول بهذه الشراكة عن طيب خاطر، لكي نتجنب مرة أخرى الصراع المستتر أو غير المستتر، العنفي او غير العنفي على السلطة.
يحدث الانقسام كتوتر متواصل يشبه الطقس السيئ طوال الوقت، الذي ينذر بالشقاق أو الطلاق. أما المصالحة فإنها تحدث بعد انفعال عميق ولعله طويل أشبه بنضوج الثمرة. ولعلهم اليوم وقد اختمرت الفكرة أصبحوا أكثر نضجًا من أجل هذا الوفاق، من أجل إتمام هذا الزفاف.
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "شمس نيوز"