بقلم: خليل العناني
ثمّة سيولة إقليمية واضحة، تحاول فيها جميع الأطراف إعادة التموضع سياسيًا واستراتيجيًا، بهدف تثبيت أوضاع جديدة، قد تسهم في تحقيق مصالحها على المدى الطويل.
العنوان الأبرز لهذه التحركات هو البراغماتية الشديدة، انطلاقًا من موازين القوى الجديدة في المنطقة، والذي تقلب عدة مرات في السنوات القليلة الماضية. فمن جهة أولى، يكشف استفتاء كردستان الاستقلالي عن محاولة أكراد العراق الاستفادة من التحولات التي أصابت المنطقة خلال السنوات الماضية، خصوصًا في العراق وسورية وتركيا، فحاولوا تحقيق أكبر قدر من المكاسب، في ظل تعزيز موقعهم في المواجهة مع "داعش"، وتقوية علاقتهم بدوائر سياسية غربية نافذة، أملاً في تحقيق الحلم التاريخي بإنشاء دولة مستقلة.
كان استفتاء كردستان، وللمفارقة، سببًا في حدوث تقارب تركي- إيراني- عراقي نادر، يهدف إلى تفريغ الاستفتاء من مضمونه، واعتباره أمرًا لم يكن. وعلى عكس ما اعتقد قادة أكراد العراق، فقد عقّد الاستفتاء من علاقتهم بحلفائهم الجدد في أوروبا وأميركا، والذين رأوا فيه استعجالًا وتحركًا غير مبرّر في ظل الأجواء التي تمر بها المنطقة، أي أنه جاء بأثر عكسي، وليس كما توقع هؤلاء القادة.
من جهة ثانية، حدث تقارب مفاجئ، أو على الأقل هذا ما يبدو حتى الآن، بين القاهرة وحركة حماس، وبين الأخيرة وحركة فتح في رام الله. وعلى الرغم من الميراث الطويل من عدم الثقة بين هذه الأطراف الثلاثة، إلا أنها توصلت، عبر جلسات وحوارات مغلقة، وربما صفقات، إلى قناعةٍ بضرورة التعايش ووقف المواجهة والصدام، ولو مؤقتًا، وتقديم حسن النيات على ما عداه. فأن يحتفي الإعلام المصري فجأة بقادة "حماس"، ويجري حوارًا تلفزيونيًا مع إسماعيل هنية في غزة، وهو الذي كان حتى وقت قريب يوصف في هذا الإعلام باعتباره من "شياطين" الإخوان المسلمين ومتهم بدعم الإرهاب...إلخ، فالأمر يعكس تحولًا استراتيجيًا تشرف عليه الأجهزة المتنفذة في مصر.
لا ندري إلى أي مدى سوف تستمر حالة الغزل الراهنة بين حركتي فتح وحماس والقاهرة، ومتى سيعود الإعلام المصري إلى مهاجمة "حماس"، باعتبارها الذراع الفلسطيني لجماعة الإخوان المسلمين في مصر، والمصنفة بقرار سياسي "جماعة إرهابية"، لكن المؤكد أن شهر العسل بين هذه الأطراف لن يطول كثيرًا، ولن تقبل به إسرائيل، لأنه يعطي قبلة الحياة لغزة وأهلها ولحركة حماس وقادتها.
ومن جهة ثالثة، ثمّة تحركات روسية في المنطقة، بهدف تكوين تحالفات جديدة خاصة مع الرياض، وهو ما كشفت عنه زيارة العاهل السعودي، سلمان بن عبد العزيز، موسكو الأسبوع الماضي، وتوقيع اتفاقات اقتصادية وعسكرية مهمة مع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين. ويقيناً، فإنه تم التعرض للملفين السوري والإيراني في الحوارات بين الطرفين. ولن يكون مستغربا إذا لعبت روسيا دور الوسيط بين الرياض وخصومها في طهران ودمشق، وذلك بما يخدم توجهاتها الجديدة، والمتعلقة بإعادة ترتيب الصراعات والملفات في المنطقة.
ومن جهة رابعة، يبدو أن التحالف السعودي- الإماراتي يسير بشكل مضطرد ومتزايد، ويسعى إلى توطيد نفسه مع محاور ليست فقط عالمية وإقليمية، وإنما أيضًا داخلية. ويبدو أننا إزاء مشروع متكامل، يتم نسجه لإعادة ترتيب الأوضاع الداخلية في البلدان العربية، بما يخدم رؤية هذا الحلف الجديد ومصالحه. وهناك محاولة واضحة لبناء شبكة من التحالفات والعلاقات على المستويات الداخلية في المنطقة العربية، تدعم هذا الحلف، وتحاول تنفيذ رؤيته. وهنا لا تبتعد الأزمة مع قطر عن هذا السياق، بل هي في القلب منه. فهذا الحلف الجديد بحاجة إلى خصم خارجي، لتبرير تحركاته وبناء استراتيجيته، وذلك في ظل عدم وجود ممانعة إقليمية ودولية لعودة السلطوية العارية للتحكم في مصائر المنطقة.
ومن جهة أخيرة، لا تزال قوى التغيير الديمقراطي في المنطقة وحركاته في حالة ضعف وتفكك، بل ارتكس بعضها نحو التعايش مع السلطوية والاستبداد، رغبة في النجاة من المصير المحتوم، وهو ليس فقط الفشل في تحقيق وعود التغيير، وإنما أيضا الهروب من دفع ثمنه الباهظ. فانزوت الحركات والجماعات الثورية التي كانت حاضرة ومؤثرة طوال الربيع العربي، وأصبح حضورها في المجال العام باهتاً وغير مؤثر. ولا تبدو قادرةً على إعادة التموضع وتجديد خطابها واستراتيجيتها، وذلك على غرار ما تفعل القوى المضادة لها.
لدينا إذا الآن خريطة لتوازن قوى جديد في المنطقة، يجري رسمه وتدشينه، ولا تبدو الشعوب حاضرةً فيه بأي قدر من التأثير والتمثيل، وهو ما يفتح الباب أمام كل السيناريوهات الممكنة.
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "شمس نيوز"