شمس نيوز/صابرين عزيز
في الذكرى الثانية لاستشهاد، بهاء عليان (22 عامًا)، برصاص الاحتلال عند مستوطنة "ارمون هنتسيف"، يسرد والد الشهيد تفاصيل استعادة جثمان نجله من ثلاجات الاحتلال إلى دفء تراب القدس:
"إذا لم يكن لديك وقت أعد الجثمان إلى حيث كان، أنا لدي كل الوقت، انتظرت أشهرًا طويلة ولا يضيرني دقائق"، قبل أن أخرج إلى جنود الاحتلال، كنت قد وضعت قلبي في جيبي حتى أواجه كما يجب، المعركة الفردية التي يخوضها ذوو الشهداء من بعدهم لمواصلة الحياة، الذكرى التي لا نتحدث فيها ولا نصمت، بل نرسم على وجه الأطفال بسمة، كل هذا يستحضرني اليوم أنا والد الشهيد بهاء عليان، محمد عليان.
في يوم الثالث عشر من أكتوبر لعام ألفين وخمسة عشر، سمعنا عن عملية مزدوجة داخل حافلة إسرائيلية في مستوطنة "أرمون هنتسيف" المقامة على أراضي جبل المكبر، هناك منفذان: أحدهما حي والآخر استشهد، رويدًا رويدًا انكشفت هوية المنفذين؛ فكان أحدهما بهاء، والآخر بلال غانم، بعد أن تركوا خلفهم ثلاثة قتلى ونحو خمسة عشر جريحًا إسرائيليًا.
لأعود بكم حيث الدفن، فجر يوم الحادي والثلاثين من أغسطس، لعام ألفين وستة عشر، بعد احتجاز جثمان البهاء ورفض العدو لتسليمه، كل كوابيس الدنيا حضرت في تلك الليلة، الاحتمالات السيئة تدور في رأسينا أم بهاء وأنا، هل نستلم البهاء؟ هل سنوافق على استلامه أم سنعيده إلى الثلاجة اللعينة؟ كيف نستقبله؟.
حاولت الهرب من كل الأسئلة التي تدور في رأسينا، ومن همس أم البهاء وأسئلتها المتتابعة "ماذا لو..؟" لكن مع عودتها إلى أدعيتها في ذلك الفجر أخذتني الحيرة، "من أين لنا، نحن آباء وأمهات الشهداء هذه القوة، كيف قاتلنا كجيش؟" كان سؤال أم البهاء لي "لا تقول عني أنّي فقدت عقلي، أرجوك، ولكن ألا يمكن أن يكون بهاء على قيد الحياة؟”، "يا الله" تلك كانت إجابتي وأنا أبتلع غصة جارحة كادت تخنقني.
" لو أن الوقت "يجري"، "لو أني ارتاح قليلًا .. ترتاح هي أيضًا قليلًا" لنتخلص من هذا اليوم البطيء، لو أعيش لحظة الفرح الاستثنائية والتي تبدو غير إنسانية مطلقًا، وهي لحظة عناق الابن ودفنه في تراب القدس، لو يزول الجليد عن جسد البهاء، لو يصبح دافئًا.
لم نكن وحدنا هناك، كانت القدس معنا، العالم يتابع عبر البث المباشر، تقترب الساعة من منتصف الليل، عائلة البهاء (خمسة عشرة شخصًا فقط) محاصرة قبالة مبنى البريد المركزي، شارع صلاح الدين يعج بالعسكر وأفراد المخابرات، الحواجز الحديدية تمنع الوصول إلى هذا الشارع، أيخافون أن يهرب جسد الشهيد؟!، أمسكت يد أم البهاء لنكون في المقدمة، شامخةً كانت، أمرنا الجندي أن نأتي منفردين وهو يحمل ورقة الأسماء، لكنا تقدمنا معًا، فقال بصوتٍ أشبه بالنباح" واحد واحد، قلت لكم" اقتربتُ منه حد الالتصاق، رفعتُ سبابتي في وجهه "افحص الهويات فقط وإيّاك أن ترفع صوتك على أحد"، منع دخول أم البهاء لامتلاكها تصريح، لكنها بدون هوية، فقلت له" لن يدخل أحد دون أم البهاء" فرضخ لنا بعد مناقشة الجنود الآخرين.
جاء وقت القرار، سأتفقد إن كان على جسده الجليد لن أستلمه، للجليد حكاية مع الشهداء المحتجزين، يضعونهم في ثلاجة باردة ضيقة، الجثامين فيها مكدسة فوق بعضها البعض في أوضاعٍ مختلفة، قد تكون الساق في وضع الانثناء، قد يكون الرأس جانبًا، يتجمد الجثمان في درجة حرارة دون الأربعين، يتجمد الدم ولا ينزف من الجرح، يتجمد الجسم كله ليتكون عليه قالب سميك من الجليد، يستقر الجثمان في داخل القالب بالوضعية التي كان فيها عند ادخاله عنوة في الثلاجة.
أرعبني أن يكون جثمان البهاء في قالب من ثلج، الكيس بارد من اللمسة الأولى، لم يكن هناك جليد على وجهه، كان باردًا جدًا مع بقايا آثار الجليد، ذرات بيضاء علقت على شاربه، وبعضها استقر في جوف عينيه، ولم تختفِ عن أسنانه التي أخفت بقايا الجليد بياضها الطبيعي، مسحت بيدي وجنتيه، تسربت البرودة إلى أطراف أصابعي، وسرعان ما انتقلت إلى رأسي فصدري فأطرافي، أشعر ببردٍ شديد، ارتجفت دون أن يلحظني العسكر، حاولت أن أفتعل ابتسامة باهتة، لم أستطع، شفتاي تجمدتا.
كان علي ينزع الأكياس الباردة القاسية عن جسد البهاء، عليّ ابني أيضّا، لم يرتجف، ورفضي لاستلام الجثمان متجمد لعدم امكانية الدفن، لأن الجسد يكون متصلبًا وداخل قالب من ثلج، ربما تكون وضعية الجثمان غير مستوية، ربما تلتصق شفتاك وأنت تقبل وجنتي ابنك بطبقة الجليد العازلة، ربما لا تستطيع أن تلمسه، ربما لا تستطيع الانتظار إلى أن يذوب الثلج عنه وتدفنه كما تشاء، لأن الوقت الممنوح لك ضيق، تستلم فيها الجثمان وتتوجه به إلى القبر وتضعه، محكومًا بوضعيته داخل الجليد، وتغلق القبر ليذوب عنه الثلج بفعل دفء التراب.
افتح يا علي، تتسع الفتحة أكثر، أسفل الرقبة بقليل، أعلى الصدر من الجهة اليسرى، ثقب في الجسم ينزف دمًا كان قد تجمد وسال بعد أن تسرب إلى الجسم بعض الدفء، ضغطت بإصبعي مكان الرصاصة، نزف الجرح أكثر، وددت لو ألعق ما علق بطرف اصبعي من دم، لم أفعل ذلك وتركت الدم ينساب، الكل يراقبني، أم البهاء، الإعلاميين، السماء، الله، نعم الله كان من عرشه يرعاني، لم ألعق اصبعي وتركت الدم ينساب، واتجهت إلى جسده، إلى الصدر حيث القلب ثقب آخر، يبدو أن القاتل صوب رصاصته هناك، نحو القلب مباشرة، ربما لم يكن بحاجة إلى رصاصة أخرى ، رصاصتا قناصٍ كافيتان لأن يتوقف القلب عن النبض.
ضغطت على الجرح ، لاستفز الدم وأمكنه من السيلان بعد تجمد دام أشهر، لم أكن أشعر بشيء وأنا أرى الدم ينزف ويسيل بهدوء داخل الكيس، راودتني رغبة غريبة أن يسيل الدم بكثافة، أن يخترق الأكياس الخمسة البيضاء السميكة، ويتسرب عبر مسامات أرضية السيارة، وينهمر كجدول يسيل في شارع صلاح الدين، ويشكل أخدودًا في شارع سليمان ليصل إلى باب العمود حيث التقى البهاء بسلسلة القراءة طلبا للحياة، حيث كان مسحراتي البلدة، حيث مطبعته الخاصة، والشوارع التي مرّ بها لجمع التبرعات في الحرب الأخيرة لغزة، غريب هذا التخيل، لكن لا غرابة فيما يراودك من أفكار في لحظة لا تتمناها لأحد.
بهاء أمامي عاريًا كان، إلا من قطعةٍ داخلية وحذاء رياضي في قدمه اليسرى و"جربان أبيض" في قدمه اليمنى، بهيًا، جميلًا كان، نظر إليّ عليّ، نظر نحوي الضابط، العائلة في وجومٍ قاتل، السماء تترقب، ملأت صدري بكمية كبيرة من الهواء، بلعت ريقي المتجمد، أرغمت غصة على التراجع، رسمت ابتسامة باهتة، لا حياة فيها، استعرضت بنظرةٍ سريعة جسم البهاء، أمامي كان ينتظر دفء الأرض، أشعر بالبرد، بالقشعريرة، أحاول اخفاء رجفة مباغتة، أقول وأنا لا أسمع صوتي، لكنهم سمعوه، هم العسكر، والعائلة وأم البهاء وربما البهاء " أوافق".
هتفت العائلة، صفقت القدس، ابتسم البهاء أو هكذا بدا لي، تململ البهاء، أو هكذا بدا لي، بعد دقائق سينعم بدفء القدس، بعد ذلك كتبت على صفحتي الفيس بوك " أنا وأم البهاء نراقب عن بعد دفن البهاء وسط التكبيرات، لم نشارك في الدفن فنحن لا نحب النهايات".