بقلم: أكرم عطا الله
علينا الاعتراف أن سنوات الظلام التي تخللت الانقسام أحدثت تآكلًا في مشروعنا الوطني الذي يحتاج إلى ترميم، وعلينا الاعتراف أن هذا المشروع تراجع كثيرًا أمام القضايا الإنسانية التي غطت مساحة الألم في غزة على امتداد السنوات الماضية. نحن بحاجة إلى الكثير أمام رياح عاتية نخشى أن تجرنا بعيدًا ونحن على مشارف النهاية التي لاحت مع نهاية الأسبوع الماضي من القاهرة.
سنعود للمشروع الوطني بعد أن نصحح مسارنا الداخلي لأن الحديث عنه كان أشبه بترف سياسي أمام ما تراكم من مآسٍ... سنفكر بهدوء حين ننتهي سريعًا من مغادرة مربع الانقسام لنعرف كيف نواجه الاحتلال بعد مواجهة ذاتنا، فهذا الشعب موحد عصي على الانكسار والاندثار بتاريخه الممتد من تل السكن التي تتعرض للسحق والمحو وصولًا لعودته للحياة التي تلاشت منذ عقد هنا في غزة وهناك في الضفة والقدس حيث تترسخ هويتنا وتراثنا في الوديان وقمم الجبال وحجارة الأرض.
عشر سنوات تعرضت غزة لرجة عنيفة كادت تفقد كل حواسها من شدة الألم. عشر سنوات عاشت على التنفس الصناعي وعلى الأنابيب وحقن الوريد. عشر سنوات على أمل بانتظار اللحظة التي يعلن فيها الوصول إلى اتفاق يخرجها من العناية المكثفة. هكذا تبدو الآن وهي تسمع خبر انتقالها، تعد الزمن بالساعات والدقائق حتى وليست مستعدة لأي تلكؤ أو تباطؤ لأنها تأخذ الأمر هذه المرة على محمل الجد.
لم تتعرض منطقة للظلم مثل غزة التي تصارع عليها الجميع وألقاها الجميع. فإسرائيل ألقتها في حِجر السلطة وكذلك فعلت السلطة مع «حماس» عندما تركت لها السيطرة عليها، وها هي «حماس» تعيد إلقاءها في حِجر السلطة كأنها ملعونة رغم طيبة أهلها وكرمهم في كل شيء حتى الدم.
هنا في غزة ينتظر السكان متسائلين وبلهفة أكبر من دوران عجلات المصالحة التي بدأت بالتحرك، ينتظرون إشارات وفعلًا على الأرض لما تم التفاهم عليه من اتفاق هذه المرة يحمل تواريخ زمنية محددة، ما يشي بحقيقة لم تكن سابقًا، كل شيء في غزة بحاجة للعلاج السريع -الاقتصاد، التعليم، الصحة، المعابر، البشر، وما لحق بهم من تشوه نفسي نتاج الإغلاق الذي استمر لسنوات طويلة. كل شيء هنا في غزة كأن على السلطة أن تبدأ من جديد وفي كل الاتجاهات.
غزة بحاجة إلى ورشة عمل ضخمة تستدعي البدء بها فورًا قبل انتظار التواريخ لمعرفة النوايا. فمن الواضح أن قوة الدفع والضغط الخارجية أكبر من الكوابح، هذه حقيقة علينا الاعتراف بها دون الحديث كثيرًا عن القرار المستقل، وهذا يتطلب من الحكومة الإسراع في اعادة هيكلة المؤسسة التي تعرضت للتجميد منذ سنوات وغادرها الكثير نحو المعاش. بحاجة إلى تصليبها كي تتمكن من تحمل عبء العمل الذي يحتاج لسنوات.
ربما أن هناك ما يجب أن تأخذه مؤسسة الرئاسة بالاعتبار إذا ما تشكلت حكومة كما تهمس بعض النخب في حواراتهم الخاصة هو أن هذه المنطقة بحاجة إلى إعادة اعتبار كبيرة بعد ما حدث لها من تهميش على امتداد الفترة الماضية، ويجب أن يشعر الغزيون بعودتهم للنظام السياسي كشركاء لديهم من القوة والكفاءة ما يؤهلهم للشراكة في إدارة الوطن وفي إعادة البناء.
هناك تفاؤل اسرائيلي بفشل المصالحة على شكل تقديرات استخبارية، وهذا يجب أن يواجه بإصرار فلسطيني على النجاح وتذليل العقبات وسرعة التحرك فلسطينيًا دون تباطؤ لأن الوقت قد لا يكون في صالح الفلسطينيين، لذا ينبغي استغلال اللحظة في الاندفاعة الحاصلة حاليًا سواء بالمتابعة المصرية أو رغبة الفصائل أو احتضان الرأي العام للمصالحة، ونخشى أن يحدث الوقت حالة من الفتور المؤقت لكل هذه الإرادات إذا ما قطعناه بسيف المسؤولية الوطنية.
سواء كانت المصالحة خارجية أم داخلية هذا لا يهم كثيرًا، المهم أنه تحقق اتفاق لأن أسوأ مصالحة أفضل من أفضل انقسام. المهم أن ندرك أننا أمام مهمات شاقة تتطلب رشاقة الحركة، أولها إعادة بناء غزة وإعادة بناء النظام السياسي وإعادة الاعتبار للمشروع الوطني. ولا ينبغي التدرج في هذه المهمات أي البدء بواحدة ثم الانتقال للأخرى بل يجب العمل على المسارات الثلاثة بخارطة طريق واضحة ومحكمة البناء وتعتمد على أدوات عمل حقيقة وكفاءات، بعيدًا عن منطق الولاء الذي شاب مؤسستنا منذ تشكيل السلطة، فلم تتقدم المؤسسة ولا حتى الأحزاب التي تعرضت لخدوش في صورتها العامة وثقة الناس بها.
الناس لن تقبل بمزيد من التباطؤ فهناك إجراءات يجب أن تبدأ على الأرض ولا أحد طلب من الحكومة أن تعلن مقايضة حل اللجنة الإدارية بالتراجع عن إجراءاتها تجاه غزة لتعلق نفسها على شجرة الاتهام، كان يجب أن تتروى وتحسبها إذا كانت ستتلكأ في التنفيذ أفضل من أن تنصب لها حركة «حماس» هذا الكمين لتصبح محل تساؤلات من قبل الرأي العام، فالكهرباء لا تحتمل أكثر من رسالة بسطرين حتى يعيدها الإسرائيلي فلا تصريح حتى الآن يعلن أي شيء فيما اللحظة والقلق يسيطران على الموقف وإن كان التفاؤل أكبر من السابق.
نحن أمام لحظة ينبغي القبض عليها جيدًا وعدم تركها تفلت من بين أيدينا. علينا أن نتحرك بثقة غير مرتجفة فالسلطة أولًا هي سلطة الشعب وما يجري من حوارات بين الفصائل كانت على ملكية غيرها. آن الأوان ليفهم الجميع أن الشعب صاحب السيادة وصاحب السلطة، صحيح أنه فشل في استعادتها خلال السنوات الماضية لأسباب كثيرة ولكن الانتخابات هي الطريق، وإلا فإن غير ذلك يعني استمرار مصادرة حق الشعب في القرار وهذا ما يجب أن تفهمه الفصائل.
المصالحة متدرجة وتحتاج وقتًا، لكن هناك قرارات يجب أن تتخذ سريعًا لصناعة مناخات وتلك مهمة في الدخول للمرحلة الجديدة، بل إن غياب هذه المناخات قد يحدث انتكاسة ندعو الله جميعًا ألا نجدها أمامنا. يجب أن نذهب للمستقبل دون عودة للوراء؛ فقد تم تجريف واقعنا وتاريخنا وثقافتنا وتل السكن نموذج من نماذج هائلة. يجب أن يتوقف كل هذا لنبدأ من جديد...!!
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "شمس نيوز"