بقلم: خيري منصور
قد لا تكون أشهر الكتب في التاريخ محظوظة بقرائها، لأن من سمعوا بها أو قرأوا سطورًا قليلة عنها أضعاف من قرأوها، ومنها على سبيل المثال ملحمة الإلياذة، والخطابة لأرسطو وجمهورية أفلاطون ومقدمة ابن خلدون، وإن كنت سأتوقف في هذه العجالة عند كتاب ميكافيللي الذي أصبح اسمه مصطلحًا يعني الذرائعية والبراغماتية وأخيرًا تبرير الغاية للوسائل حتى لو كانت قذرة.
ومن أخطر مواعظ ميكافيللي تلك الموعظة التي تتعلق باستبعاد النخب، والبحث عن الأقل كفاءة واستحقاقًا لسببين أولهما أن من يعاني من عدم الاستحقاق يكون كاثوليكيًا أكثر من البابا وإذا طلب منه أن يقول بأن الكرة الأرضية مربعة أو شبه منحرفة لا يتردد في ذلك.
وثانيهما أن النخبة مؤهلة بالكفاءة والخبرة للنقد ولها دراية بشعاب التاريخ والقوانين والمفاهيم، وحين قرأت ذات يوم ما كتبه أمريكي كان من المتخصصين في العمل على تفكيك الاتحاد السوفييتي من داخله وهو استبعاد النخب واستبدالها بالأشباه، أدركت على الفور أنه قرأ ميكافيللي .
إن البحث عن الأقل شأنًا أو كفاءة أو خبرة في أي مجال له هدف واحد محدد هو قلب معادلة التراتبية واستبدال المفاضلة بالمراذلة وأخيرًا البحث عن الأقل سوءًا وليس عن الأفضل والأقل قبحًا وليس الأجمل، وقد مرّ العرب عبر تاريخهم بمراحل من هذا الطراز خصوصًا في الأندلس، ثم دفعوا الثمن وهو انهيار الدولة.
إن مواعظ ميكافيللي عديدة وأقلها شهرة لأسباب غامضة بالنسبة لي على الأقل تلك الموعظة حول النفور من النخب واستبعادها، وقد تنبه برنارد شو بحصافته إلى ذلك، فكتب عن عقدة سماها عقدة عدم الاستحقاق أو استكثار الفرد لما يعطى له بلا مُبررات.
إن العالم الآن بحاجة الى إعادة قراءة أمثال ميكافيللي وغرامشي على اختلاف الأطروحات وتناقضها أحيانًا، وما يجمع عليه أهم المؤرخين هو أن الحضارة وليس الدولة فقط تبلغ خريفها عندما تصبح المعرفة عبئًا والوعي حمولة لا تطاق لأن العملة الرديئة عندئذ تطرد العملة الجيدة بعكس الشائع في الأمثال !!
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "شمس نيوز"