بقلم: د.عبد الستار قاسم
قد يأخذ التطبيع معانٍ متعددة، لكن عدد هذه المعاني يتقلص عندما يأتي الأمر إلى الكيان الصهيوني. إنه مغالبة للتطبع ليصبح طبعًا، أي جزءًا من سلوك طبيعي مبني في الداخل الإنساني والسلوك الظاهري. وهو نوع من أنواع الترويض لكي يتقبل الرافض سلوكًا كان يرفضه أو يعتبره نشازًا أو عارًا.
وهذا ما درجت عليه ثقافة أهل الشام فيما يتعلق بترويض الخيل. كانوا وما زال بعضهم يتبع عددًا من الخطوات والأساليب مع المُهُر (الخيول الشابة الصغيرة) لتصبح صديقة للإنسان وتؤدي له الخدمات التي يريدها.
منذ أن تولد الكيان الصهيوني على أرض فلسطين، والعرب يتحدثون عن مقاطعته ومحاصرته على الرغم من أن العديد من الأنظمة العربية كانت تتصل بالصهاينة من تحت الطاولة. حصلت بعض المقاطعة العربية للصهاينة، واستمر العرب في رفض الكيان حتى في أروقة الأمم المتحدة. لكن الأمور فلتت منذ قيام السادات بزيارة القدس والبحث عن حل مع الصهاينة. والأمور تتدهور باستمرار إلى أن وصلت الآن إلى حد التنسيق الأمني، ومن المرجح أن يصل إلى حد التعاون العسكري العلني مستقبلًا.
جدليًا، لا يمكن إلا أن تقوم الأنظمة العربية بالتطبيع مع الصهاينة والسبب أن الكيان الصهيوني وأغلب الأنظمة العربية من منبت واحد. الاستعمار الغربي هو الذي صنع أغلب الأنظمة العربية بخاصة الأنظمة القبلية، وهو الذي صنع الكيان الصهيوني. وقد صنعهما لخدمة أهدافه: الكيان الصهيوني يعمل قاعدة استعمارية غربية متقدمة، والأنظمة العربية تعمل حكامًا بالوكالة لخدمة مصالح أهل الغرب. أي لا مفر من التقاء وظيفة الكيان الصهيوني مع الهدف الوجودي للأنظمة العربية، ومن كان يظن أن الأنظمة كانت جادة في خطاباتها حول تحرير فلسطين لم يكن يعي وطأة العلاقات الجدلية القائمة في المنطقة.
أشد ما يهم حكام العرب هو المحافظة على نظام الحكم، واستمراره من الآباء إلى الأبناء، والكيان الصهيوني خير من يساعد الأنظمة على البقاء بالتعاون مع الاستعمار الغربي بخاصة الولايات المتحدة.
المحافظة على نظام الحكم أهم من كل القضايا العربية، ولا أرى أن نظامًا عربيًا بخاصة إذا كان قبليًا أو متحولًا نحو القبلية لديه الاستعداد للتضحية بنفسه من أجل شعبه أو شعوب الأمة العربية. الشعوب العربية قد تتمرد، وقد تتطور الأمور إلى حد التخلص من هذه الأنظمة، لكن أجهزة الأمن الصهيونية والأمريكية تبقى ساهرة على استقرار المنطقة، أي إبقاء الأوضاع في المنطقة على ما عليه.
أما الصهاينة فلا يتوقفون عن دفع الحكام العرب نحو مزيد من التطبيع ومزيد من التعاون، والسبب أن الكيان يرى بقاءه في المنطقة من زاوية قبوله كجزء لا يتجزأ من المنطقة وأنه مقبول من الشعوب كجزء أصيل من المنطقة ولا ينفصل عنها، وله الحق في الوجود والبقاء. الكيان الصهيوني لا يراهن على الحكام العرب في ضمان بقائه لأنها أنظمة قمعية استبدادية شهوانية فاسدة وآيلة للسقوط. إنها لا تصلح إلا لإفساد الشعوب وإبعادها عن الاهتمام بالقضايا العربية. وهذا الإفساد هو أكبر خدمة تقدمها الأنظمة العربية للكيان الصهيوني والطامعين عمومًا.
جرب الصهاينة الصلح والتطبيع مع النظامين المصري والأردني، لكن الشعبين المصري والأردني بقيا على رفضهما للكيان على الرغم من محاولات النظامين جرّ الشعبين نحو التطبيع. فإذا كانت الأنظمة العربية إلى زوال فيجب العمل باستمرار على تطبيع الشعوب.
الشعوب هي الباقية، والأفضل العمل على تطبيع المؤثرين في الصفوف الشعبية من مثقفين ومفكرين وأكاديميين ورجال دين وسياسيين ورأسماليين. وقد تمكن الكيان الصهيوني بالتعاون مع أمريكا من استقطاب العديد من المثقفين والأكاديميين من خلال الجمعيات غير الحكومية الممولة غربيًا. وتكونت طبقة في الساحة العربية معروفة الآن بسماسرة المعرفة. إنهم هم الذين يقومون بالأبحاث اللازمة للتعرف على أمزجة الشعوب العربية وتطلعاتها والثغرات الاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية التي تعاني منها وتقدمها لأهل الغرب وبالتالي للصهاينة من أجل التعرف على من أين تؤكل كتف العرب. إنهم يقدمون المعلومات الدقيقة لأنهم من الناس ويعرفون هموم الناس جيدا ورغباتهم وما يسعون إليه. إنهم يعرفون نقاط قوة الجمهور ونقاط ضعفه وبإمكانهم إرشاد الأعداء بطريقة يخططون فيها سياساتهم جيدا. هؤلاء يشكلون خطرا كبيرا على قضايا الأمة، ولديهم دائمًا الاستعداد للظهور بمظهر العلماء أمام الناس كجزء من حرفة التخفي والتستر عن العيون. إنهم ظاهرة خطيرة ساهمت في التطبيع مع الكيان الصهيوني، ونحن نرى العديد منهم على شاشات التلفاز بخاصة في القنوات التابعة للأنظمة العربية. هؤلاء بالنسبة للصهاينة أكبر أهمية من السياسيين لأنه من السهل عليهم تمرير السياسات الغربية من خلال كتاباتهم والمعلومات التي يحصلون عليها من خلال أبحاث يمولها الغربيون.
باختصار، المطبع ليس أمينا على القضية الفلسطينية، وهو ينتهي، سواء عن علم أو عن غير علم وكيلًا للكيان الصهيوني ومعاديا للشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية. ولهذا وجدنا قوة كبيرة يستثمرها وطنيو تونس والمغرب ضد محاولات التطبيع التي شاركت فيها الحكومات وأُجبرت على الانكفاء. البركة في شعوبنا العربية والخيبة في سياسات حكوماتنا.
جميع المقالات تعبر عن رأي كتابها