بقلم: د. آمال موسى
في البداية لا بد من توضيح مهم: المقصود بالعقلنة ليس توخي الواقعيّة التي عادة ما يحيل معناها إلى الاستسلام لشروط الواقع والانصياع لقوانينه. إن القصد هو أن يكون التعامل مع القضية الفلسطينية وفق مشروع له أهداف واضحة وخطة عمل دقيقة وفعالة.
كما أن العقلنة مسار وثقافة ورؤية ودرس من دروس التجارب التي قامت على خلاف العقلنة.
يوم الخميس الماضي كان تاريخ مرور مائة عام على ما سمي «إعلان بلفور» الذي تضمن وعدًا بريطانيًا بإنشاء وطن قومي لليهود على أرض فلسطين. تاريخ لا يمكن مروره دون ضجيج، خصوصاً أنه بلغ المئوية، فأضحى ضجيجه مضاعفاً، والتسابق من الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي مضاعفاً في حرب رمزية تكشف عن معانٍ مختلفة.
طبعاً لا شك في أن التواريخ مناسبات مهمة مهما كانت مؤلمة أو مشؤومة كما يحلو للفلسطينيين والعرب أن يصفوا وعد بلفور. ولكن الألم محرك للشعوب والظلم ذريعة لشحن الشعب والتجاوز ورد الفعل بطريقة منظمة تؤكد الحق وتعيده.
السؤال الجدير بالطرح هو إلى أي حد أسهمنا نحن في تحقق هذا الوعد، وكيف تحكمنا في محطات 48 و67 وصولًا إلى «اتفاق أريحا»؟ هل كان من الممكن في أبسط الحالات أن يكون الوضع الفلسطيني أكثر فعلانية في تحديد موازين القوى بينه وبين الطرف الإسرائيلي؟
كما نلاحظ أنّها تساؤلات مكشوفة الأجوبة الاستنكاريّة.
لذلك فهي مئوية لوضع النقاط على الحروف، لا للقنوع الذاتي الانفعالي بتوصيف وعد بلفور بالمشؤوم.
قلنا إن المئوية أذكت البعد الرمزي للصراع لاعتبارات موضوعيّة عدة، أهمها أن تاريخ إعلان بلفور نفسه يخرجنا من دائرة اليومي في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ومن ضجيج الأحداث الضاغطة إلى أصل الصراع وجوهر القضية الفلسطينية. وكما نعلم فإن لأصل الصراع روايات مختلفة ومتضاربة، والرواية الأكثر تخييلًا هي الرواية الإسرائيلية، لذلك فإن إسرائيل معنية بتاريخ هذا الوعد لأنها معنية بالاستمرار في عملية تثبيت رواية هي الوحيدة المؤمنة بتفاصيلها. بمعنى آخر، فإن تاريخ إعلان بلفور هو مصدر إزعاج إسرائيلي ومناسبة بالنسبة للفلسطينيين كي يعيدوا ذاكرة الجغرافيا والتاريخ إلى نصابها، وتخليصها من سطوة تراكم تثبيت إسرائيل لروايتها الخيالية في أرض الواقع والجغرافيا.
إذن هو صراع رمزي مستحق للفلسطينيين، ومفهوم بالنسبة للإسرائيليين.
اللافت للانتباه خلال الأشهر والأسابيع الأخيرة هو تركيز الفلسطينيين على مسألة ضرورة اعتذار بريطانيا للفلسطينيين بسبب وعد بلفور، ولقد تجاوزت هذه المطالبة معناها الرمزي الخطابي الشفوي، وحظيت بتعبئة كبيرة، وكأنها هي الحل للقضية الفلسطينية.
في الحقيقة يبدو لي أن الاعتذار باستثناء بعده الرمزي الشكلي فهو لا قيمة له. من جهة أخرى نلحظ أن المطالبة بالاعتذار غلب عليها الجانب العاطفي، وكأنه اعتذار شخص من شخص، وكأنه اعتذار في معناه الأخلاقي القيمي المتعارف عليه.
عندما نطالب دولة ما باعتذار، فإن معنى الاعتذار يتغير تماماً، وأضعف ما في هذا المعنى هو بعده الأخلاقي. أولاً كيف نتوقع من بريطانيا مثل هذا الاعتذار، والحال أن رئيسة الوزراء نكاية في هذه المطالبة وقعت تحت ضغط إسرائيلي، وتوظيف وعد بلفور لمصالحها من خلال احتفالات تأكيدية، وتذكير بفضل بريطانيا التاريخي وتعهدها منذ قرن بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين؟
ننسى أن الاعتذار في لغة الدول عملة صعبة، وأن له تكلفة سياسية واقتصادية، وأنه أحيانًا كما هو حال بريطانيا اليوم يصبح الاعتذار عملة صعبة لا غنى لبريطانيا التي تعرف مشاكل اقتصادية عنها. فأي مصلحة لها مع الفلسطينيين حتى تفكر في الاعتذار؟
أرى أن المطالبة بالاعتذار أدت إلى نتائج عكسية. ومع ذلك يبقى المطلب مشروعًا وحقًا. من ناحية أخرى، إذا سلمنا بفكرة أن الفشل لا يمكن أن يكون من طرف واحد، وأن ضياع الحق لا يتحمله فقط مغتصبه، وأن كل الأفعال إيجابية كانت أو سلبية هي نتاج فعل تشاركي، بالضرورة فإن الفلسطينيين والعرب مطالبون أيضاً بالاعتذار لفلسطين.
لا نكسب شيئًا إذا انتظرنا الاعتذار أو حتى إذا حصل. والكسب الحقيقي هو عندما نراجع تاريخ القضية والخروج بدروس. ويجب ألا ننظر لتاريخ القضية بعين واحدة بل كل العيون مهمة ومفيدة بما في ذلك العين الإسرائيلية، أو كما يسميها البعض الصهيونية.
أيضًا هناك نقطة أظن أنها تستحق التفكير من الجانب الفلسطيني. لقد راهن الفلسطينيون على البلدان العربية، باعتبار أن القضية الفلسطينية هي صراع عربي إسرائيلي، وليس فلسطينيًا إسرائيليًا، وهو تصور إلى حد بعيد منطقي، ولكن الفرق بين فلسطين وإسرائيل أن الأولى عولت على التضامن العربي، والثانية استثمرت دورها الحيوي في الدول القوية، فكانت لها حليفة لا فقط متضامنة. والفرق بين التضامن والتحالف كبير في ميزان المال والاقتصاد.
مر الآن قرن بتمامه وكماله على إعلان بلفور في 2 نوفمبر (تشرين الثاني) 1917، ورغم تراكم الانكسارات بفعل العدو وبفعل الأصدقاء، وبفعل الداخل الفلسطيني المنقسم، فإن للفلسطينيين أيضًا وعدهم لفلسطين الحق والأم والقضية، وبعقلنة القضية والصراع يمكن للفلسطينيين الوفاء بعهودهم: لا بد من حلفاء، ولا بد من حكومة فلسطينية تفرض ثم تطالب. لتكن القضية فلسطينية - فلسطينية أولًا. ذلك أن القوة تأتي من الداخل وليس من الخارج، حتى لو كان هذا الخارج الدول العربية التي دورها مزيد التقوية.
جيمع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "شمس نيوز"