بقلم: حسين حجازي
تحت إلحاح وضغط من قبل ايهود باراك والرئيس الأميركي بل كلينتون وافق ياسر عرفات مضطرًا على الذهاب إلى مفاوضات كامب ديفيد، عرفات لم يكن مقتنعًا أن باراك ناضج أو مستعد لدفع ثمن استحقاق السلام النهائي، ورأى أن فشل هذه المفاوضات التي قرر الرئيس الأميركي وضع كل ثقله الشخصي فيها، سوف يؤدي حتمًا إلى مواجهة بين الطرفين قاسية وشاملة، لن تكون إلا نوعًا من كسر العظم. وهذا ما كان في الانتفاضة الثانية التي انتهت بالأخير إلى اغتيال عرفات.
في طريقه إلى أميركا عرج عرفات على القاهرة لاستشارة الرئيس المصري حسني مبارك، الذي كان متخوفًا من هذه المفاوضات، ويومها سأل مبارك عرفات: هل تستطيع يا أبو عمار أن ترفض هناك ما يعرض عليك؟ أجاب عرفات: إذا عرض علينا ما هو موافق لمطالبنا سوف نقبله أما خلاف ذلك لن نقبل به وسوف نرفضه، وبقية القصة معروفة.
أعتقد باراك أنه قدم أفضل عرض للفلسطينيين كمن أخرج كل ما في جيوبه على الطاولة، ونظر عرفات إلى ذلك ثم أشار إلى أن هذا لا يكفي أو يلبي شروط الحل. ولكن باراك غمز من جانب آخر إلى أن هدفه النهائي كان اختبار موقف عرفات الحقيقي، وبعد ذلك بدأت طبول الحرب عندما استدعى باراك أرئيل شارون.
وليس الهدف اليوم من استدعاء هذه اللحظة تذكير إيهود باراك لمناسبة إعلانه مؤخرًا أنه الشخص الوحيد المؤهل لقيادة إسرائيل، في ظل التقارير التي تتحدث عن قرب تقديم لائحة اتهام ضد بنيامين نتنياهو، قد تنتهي به إلى السجن كما حدث مع سلفه إيهود اولمرت. ولكن استدعاء هذه القصة يبدو أكثر ضرورة من أجل إعادة بناء الذاكرة الفلسطينية إزاء ما يجري الحديث عنه، حول التحضيرات التي تقوم بها إدارة دونالد ترامب لعرض المحتوى الجديد حول السلام النهائي، وما يرافق ذلك من تسريبات وأقاويل وتكهنات وتساؤلات على هامش كل ذلك حول الموقف الفلسطيني.
ولا يستدعي هذا الاستحضار أو التذكير بالتجربة الإيحاء كما لو أننا نستبق هذا العرض المتوقع أن يكشف عنه في شهر كانون الثاني، بالقول « لا » . لما يمكن أن يصدر عن هذه الإدارة مما بات يوصف بصفقة القرن. فنحن لا نعرف بعد على وجه الدقة ما سوف يعرض علينا، أو دعونا نردد القول المأثور: «لنصل الجسر ثم نرى» أو «عندما يأتي الصبي نصلي على النبي». ولكن بعيدًا عن هذه الثرثرات الإعلامية فإننا نريد أن نتذكر ما قاله عرفات مرة ونقول: إذا عرض علينا ما يوافق مطالبنا سوف نقبله وإذا العكس سوف يرفضه الرئيس أبو مازن باسمنا.
ولا يغير من هذه الحقيقة اليوم ما يقال عن المتغيرات الإقليمية، لكني أظن مرة أخرى استباقًا لما يعرض أن المشكلة ليست نحن أو عندنا، وإنما هي في إسرائيل التي لا تريد زعامتها الحالية منذ العام 2009 أي تسوية أو سلام معنا، وإنما تريد الحصول على رأس المال كله وليس الوصول إلى حل وسط أي عقد صفقة، أي رابحًا وخاسرًا وليس رابحًا ورابحًا. ولذا فإن ما يرى الآن أن الشرط الأولي الذي يسبق عرض هذه الصفقة هو إزاحة هذا الرجل الذي يحكم إسرائيل ومجموعته المتطرفة، لكيما يصار إلى إحلال مبدأ او شرط الأخذ والعطاء أي منهج المساومة.
هل عودة باراك للتذكير بشخصيته عند هذه اللحظة الجديدة التي تشكل مفترقًا حاسمًا يقف أمامه الفلسطينيون والإسرائيليون هو في محله؟ كما مواصلة الرئيس ابو مازن التذكير بما انتهت عنده المفاوضات مع إيهود اولمرت؟ إذا كان مواصلة بناء الذاكرة أو السياق يقتضي الإقرار أنه مع باراك فإن الرجل في اللحظة الأخيرة في مفاوضات «طابا» الاستكمالية لكامب ديفيد ولكن بعد فوات الأوان حاول تطوير العرض الأول الذي قدمه. أما مع إيهود اولمرت فقد كدنا نقترب من أقرب نقطة إلى هذا الحل أو السلام النهائي. والسؤال اليوم إذا ما كان العرض أو خطوط الصفقة التي سيعرضها ترامب تلقي بالرمح إلى أبعد من النقطة التي وصلنا اليها مع ايهود أولمرت، وهي النقطة التي حاول نتنياهو الانقضاض عليها.
لقد تعلمنا إذن المفاوضات أو تمرسنا فيما يوصف بفن السياسة كنهج عملي براغماتي يخضع للشروط العقلانية وليس مجرد مثاليات ساذجة.
وليس ثمة هذا الوضع المثالي والمجرد في الوساطة أما قبول ما نعرضه عليكم كما هو أو تركه ورفضه كله أو أن تستقيلوا ؟ وحتى في مفاوضات كامب ديفيد المغلقة التي كانت تشبه الحجز أو الإقامة الجبرية، حتى يتم الاتفاق أو ظهور الدخان الأبيض من مجمع الأساقفة لانتخاب البابا الجديد. فقد تم الاتفاق على نقاط وأمور عديدة ولكن بقي الاختلاف على الأمور الأُخرى التي حالت دون إتمام التسوية، وهذه الأمور هي التي تم التفاوض عليها من أجل جسرها لاحقًا في طابا وبعد ذلك مع حكومة أولمرت.
والراهن أنه في كل الأحوال فان تدخل إدارة دونالد ترامب بقوة بمثل هذه الوساطة، هو أفضل بالنسبة لنا من استمرار هذا الفراغ أو الانسداد في الوضع الحالي. وبالنظر إلى تطرف وتعنت المجموعة الإسرائيلية الحاكمة، فإنه من الأفضل كذلك إضفاء المزيد من العزلة الدولية عليها وتشديد الخناق حول رقبتها. واستباقًا أيضًا إذا كان الحديث يدور عن حل تدريجي ولكن على قاعدة الإقرار بحل الدولتين، فلتكن الضمانة أو القاعدة التي تتم عليها المفاوضات هي الاعتراف الأوروبي والأميركي بالعضوية الكاملة للدولة الفلسطينية، التي سيُعترف بها على الورق.
ولقد رأينا هنا أن ما يثار عن التطبيع العربي الجماعي مع إسرائيل قبل الاقتناع والرضا الفلسطيني بالحصول على ثمن إنجاز هذه العملية، هو من قبيل الوهم أو الإدعاءات الإسرائيلية. ولكن الذي سيحدث ربما هو أشبه بالطريقة أو العملية التي تجري عليها المصالحة الفلسطينية. وعلينا هنا أن نتذكر أو الأصح أن نربط بين الضغط الأميركي لإحداث هذه المصالحة قبل أسابيع، والتمهيد لإخراج ما يسمى بالصفقة إلى العلن. والمسألة واضحة أن عدم ترك غزة لأن تكون هي الدولة من دون الدولة المتفق عليها، إنما يشي في الواقع في أن حل الدولتين على قاعدة إقامة دولة فلسطينية على حدود الرابع من حزيران 1967 إنما هو الذي يحدد أو يشير إلى وجهة السفر.
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "شمس نيوز"