شمس نيوز/ توفيق المصري
"طريق العودة شائك يا أمي، قد لا تلمحي وجهي الذي بكيتِ لأجله أشهرًا، قولي لطفلتي أباكِ يشتاق لك بحجم الكون وأكثر، وأشتاق لضحكتك وحبوك أمامي، وأشتاق للمنزل، والعمل، وللحياة البسيطة في غزة"، يتمنى الشاب (م) العالق في مطار القاهرة الدولي لو يتمكن من إرسال تلك الرسالة، لكنه يخفيها كبتًا أو لخيط الأمل الرفيع الذي ظل ممتدًا، بإمكانية عودته لأهله وعائلته.
فقبل نحو شهرين من الآن وحين فتح معبر رفح البري، قرر الشاب (م) الذي نتحفظ على ذكر اسمه لعدة أسباب سنذكرها لاحقًا، السفر إلى الخارج، عله يجد فرصة عمل ينتشل بها عائلته من أوضاعها الصعبة التي تعيشها في غزة، لكنّ ما إن مر شهر ثم شهرين على مكوثه في إحدى الدول الأوروبية، حتى أصبح يرى العالم في بعده عن عائلته كأنها بقعة جحيم، تشد فاقدي الأمل وتفقدهم ما تبقى داخلهم.
بصعوبة بالغة، وبعد عام تقريبًا، تمكن الشاب (م) من السفر عبر معبر رفح البري، لكن التفاصيل التي تقف خلف عمليات التسجيل والانتظار طويلة، ولا يتسع هذا التقرير لذكرها.
ظل على اتصال بعائلته، عبر شاشة الهاتف، من مسافة بعيدة، يحتاج فيها لحضن أمه التي ظلت تبكيه مذ فارقها، وطفلته التي تناديه، حتى يحتضنهم، لتجتمع كل تلك الأحدث، وتشكل داخله قرارًا حتميًا لا جدال فيه، بالعودة إلى بلده، بعد العالم الذي ما عاد يراه كأنه وردي كما صور في ذهنه أثناء تواجده في غزة.
الأربعاء الماضي، وفور أن قررت السلطات المصرية، فتح معبر رفح البري، لثلاثة أيام بدءًا من اليوم نفسه وحتى الجمعة، أمام سفر وعودة المواطنين في كلا الاتجاهين، جهز أغراضه وأمتعته للعودة إلى غزة.
المحطة الأولى للوصول إلى غزة، بعد قرار العودة، مطار القاهرة الدولي، فاشترى تذكرة طائرة، ووصله اليوم التالي، الخميس، لكن وما أن اقترب المساء حتى منعت السلطات المصرية أحدًا من الخروج لمعبر رفح، بدعوى الأحداث الأمنية في سيناء.
صباح الجمعة، أعلنت السلطات المصرية، إغلاق معبر رفح البري بشكل مفاجئ وذلك بسبب الأوضاع الأمنية في سيناء، ورفع الجيش حالة التأهب القصوى مع الشرطة لتنفيذ عملية شاملة ضد العناصر المسلحة على مختلف الاتجاهات الاستراتيجية شمال سيناء.
"للضرورة القصوى، كم عدد العالقين في العريش والشيخ زويد، لأن سفارتنا بالقاهرة تريد التنسيق لهم، للعودة للقاهرة من أجل إدخالهم مرة وحده وبشكل جماعي؟ كان هذا سؤال السفارة الذي ردّ عليه (م) "لا أحد يعرف، الله وحده يعرف أعدادهم، أو حتى أجهزة الأمن تعرفهم، والتي تستدعي أحدًا منهم كلما وجدت نفسها متفرغة، عشرات لا نعرف أعدادهم ولا حتى السفارة، مِمَن كانوا ينوون العودة إلى غزة، علقوا في مطار القاهرة، ويتعرضون للإهانة والتعذيب، ويفتقدوا إلى أبسط المقومات الأساسية، بالإضافة إلى البرد الذي ينهش أجسادهم".
الجمعة سحب الأمن المصري من العالقين هواتفهم، حتى يعزلوهم عن العالم، ليتمكن الشاب (م) من إعادته أمس، ويكشف لنا تفاصيل ما يدور داخل غرفة الاحتجاز التي تضم العشرات من العالقين الذي ينوون العودة لغزة، ودون أن يشعر أحد، أو تتمكن كاميرات المراقبة من ملاحظة التقاطه لبعض الصور التي نقلها لنا من داخل صالة الاحتجاز في مطار القاهرة الدولي، وتحكي معاناتهم دون شرح.
ويقول لـ"شمس نيوز"، إن أمن الدولة المصري يستدعي بين الفينة والأخرى العالقين، ويقتادهم للتحقيق ويحتجزهم في زنازين أسفل المطار، مضيفًا أنه عدّ استدعاء 90 شخصًا حتى مساء أمس.
ويستذكر، أنه دخل عليهم يوم الجمعة ضابط مصري، قائلًا بسخرية إن "المعبر لن يفتح أبوابه حتى 6 أشهر، وأنهم لن يعودوا إلى غزة قبل تلك المدة، تساءل (م): "ما هذا الظلم الذي يُهرب منه ليدفع أحدنا ثمن خوض غمار رحلة مترامية فاشلة؟".
يخفي (م) عنا خبر استدعائه، لنكتشف من التفاصيل التي حصلنا عليها من عائلته في غزة، أن ابنهم تعرض للتعذيب والضرب بعد استدعائه كالآخرين، الذين استدعاهم الأمن المصري بشكل انفرادي، للتحقيق.
وتقول عائلته في غزة لمراسل "شمس نيوز": "يومان تقريبًا قضيناها دون اتصال بابننا، وحين عاد يحدثنا، لاحظنا بتغيرات، فطلبنا صورة له، ليطمئن قلبنا أنه بخير، لكنه لا يرغب بإرسالها لنا"، وهو ما أثار الشك لديهم بأن ابنهم تعرض للضرب والتعذيب.
وتقول إحدى أخواته: "أمي تموت بين يدينا، وغير مصدقة أن ابنها بخير، وهو لا يرغب بإرسال صورة له"، مضيفةً أن أخاها، استدعى من قبل أمن الدولة المصري، مرتين وسحب انفراديًا، وأنه في أول مرة وضع في زنزانة تحت الأرض، انسحب هاتفه وجهاز الحاسوب.
وتنقل بعضًا من حديث أخيها لهم، أن العالقين طلبوا من مندوب السفارة في القاهرة حين زارهم بعد يوم من مكوثهم داخل غرفة الاحتجاز في المطار، أغطية ومخدات، غير طالبين شيئًا آخر، قابلين بالنوم على الأرض، في ظل أجواء برد قارس.
وبحسب (م)، فإن وفدًا من السفارة الفلسطينية في القاهرة، جلب لهم "ملايات خفيفة" لا تفي بالغرض، وبعض الأشخاص من العالقين رفضوا أخذها وصرخوا في وجههم من أجل أن يبذلوا جهودًا لعودتهم لعوائلهم وأسرهم، قصتنا ليست الوحيدة، وتتشابه في معاناتها مع كل العالقين، سواء في داخل الصالة المصرية، أو في الجانب المصري من معبر رفح، أو بمطار القاهرة أو في فنادق العريش، الذين ينتظرون بفارغ الصبر فتح معبر رفح البري."