الكاتب/ حسين حجازي
في المآسي، والمآسي وحدها فقط التراجيديات الكبرى في التاريخ يتحول الناس لأن يصبحوا أبطالا. ويوم الرابع عشر من أيار على السياج الذي يفصل غزة عن البلاد الأم، كانوا هم الذين يعيدون تمثيل هذه البطولة في التاريخ ومرة أخرى بعد مرة في الحكاية الفلسطينية، التي تربو على المئة عام ولم تنته. وفي كتابه العزيز يقول الله عز وجل "ويتخذ منكم شهداء" أي أبطالا.
وربما شعروا عند هذه اللحظة بما شعر به السيد المسيح وهو يمضي الى هذه الجلجلة على درب الآلام وحيدا إلا مع صليبه يحمله على ظهره، ورددوا في صرختهم الأخيرة المكتومة ما ردده المسيح غروب ذلك اليوم "الهي الهي لماذا تركتني وحدي". لكن صرخة المسيح التي لم تذهب سدى فان صرختهم المشفوعة بدمائهم إنما هي التي أعادت مد الحياة بل الروح الى قضية شعبهم، وحركت من جديد السماوات والأرض. حتى لكأن العالم على اتساعه وتعدده وقف خجلا أمام عظمة بأسهم، ولقد انتصر أخيرا الدم على السيف. وبطل السيف الذي تعيش عليه هذه الدولة المارقة منذ سبعين عاما، فما بعد يوم الرابع عشر من أيار لن يكون كما قبله.
وفي لحظة نادرة وقف ممثلو دول العالم الـ15 في مجلس الأمن الدولي هذه الدقيقة من الصمت، التي كان يحتاجها الفلسطينيون ليشعروا بعد الآن انهم أخيرا اخترقوا الجدار، حين بدا عدوهما الإدارة الأميركية المجنونة الحالية والاحتلال الإسرائيلي في نظر العالم ليسا معزولين او منبوذين وشاذين فقط، كما لو انهما مجرمان تم الإمساك بهما في جرم مخز كعار يظلل وجوههم، ولكنه كان مشهدا اقرب الى السقوط والعري كانت أميركا وإسرائيل عاريتين.
وعدد، على نحو نادر أيضا ان يحصل، ممثل بوليفيا المحترم أسماء العشرة الأوائل الذين استشهدوا على يد الجيش الإسرائيلي، وكأنه بعد خمسين عاما على اغتيال ارنستو تشي جيفارا أيقونة الثورة العالمية في غابات بوليفيا، بلده حين كانت تحكم من لدن حكومة عميلة للولايات المتحدة، يستحضر في هذا الخشوع أمام أرواح هؤلاء الفتية الفلسطينيين الذي اكبرهم في العمر يبلغ الـ21 عاما روح جيفارا ومجده، أمام ممثلة أميركا المتطرفة والشرسة التي تعيد في خطابها المعادي والكريه أجواء تلك الحقبة السوداء في تاريخ أميركا، حين كانت أميركا تتحالف مع أحط الحكومات في العالم، ويذهب جهاز مخابراتها سيئ السمعة الى كل مكان في العالم لاغتيال النشطاء والمعارضين لها.
لكن الضربات السياسية والدبلوماسية غير المسبوقة جاءت من تركيا ورئيسها رجب طيب أردوغان، الذي اشهر سلاح الموقف الأخلاقي الصلب والصارم أمام إسرائيل وحاميتها أميركا على حد سواء، لكي يقدم أمام الدول العربية والإسلامية والعالم الأمثولة او السابقة عما يجب عمله بعد الآن.
طرد السفير الإسرائيلي إذاً، من أنقرة وجرى تعمد إهانته عند مغادرته المطار، لكي تكون هذه رسالة واضحة الى العالم من انه لا يجب التعامل مع ممثلي هذه الدولة بأي قدر من الاحترام، وما دامت هذه الدولة لا تقيم أي احترام للقوانين الدولية وتمارس هذا القدر من الرعونة في مواجهة المتظاهرين السلميين، فإن عليها ان تدفع الثمن.
وكان الرئيس التركي الذي دعا على عجل الى قمة إسلامية للبحث هذه المرة فيما يمكن اتخاذه لمواصلة هذا الرد الجماعي على إسرائيل وأميركا، واصل هجومه في تصريحات علنية واصفا بنيامين نتنياهو بأن يديه ملطختان بالدماء، وقال ان إسرائيل هي التي تمارس الإرهاب وان ما يفعله الفلسطينيون هو انهم يقاومون احتلالها لأرضهم. وما حدث أيضا في سابقة غير معهودة ان دولا أخرى مثل بلجيكا وإيرلندا وجنوب إفريقيا استدعت سفراءها من إسرائيل او قامت بطرد وتوبيخ سفرائها كما فعلت جنوب إفريقيا وبلجيكا.
وتحت تأثير الغضب الذي أبداه العالم ولا سيما أيضا صحافة الغرب التي وصفت ما جرى على الحدود الغزية بالمذابح وحمامات الدم. عقد وزراء الخارجية العرب بدعوة عاجلة من السعودية اجتماعا طارئا، وبغض النظر عن المخرجات الفعلية التي تحدثوا عن إعدادها ضمن ما سموه "خطة التحرك العربي الاستراتيجي" للرد على نقل السفارة الأميركية الى القدس والمجزرة التي ارتكبتها إسرائيل يوم الاثنين على الحدود مع غزة، إلا انه كان واضحا ان ما جرى قد وضع بعض هذه الدول العربية في حرج شديد.
وربما نستطيع القول أبعد من ذلك ان الثورة السلمية في غزة حققت من الناحية الاستراتيجية ما يعادل ما تحققه حرب عسكرية كبرى. إذا كانت في الواقع وجهت ضربة سياسية قاطعة لمسار بدا انه آخذ في التطور او التسلل من بين هذه الشقوق، بدأته بعض الدول العربية سرا وهي دول صغيرة في الواقع وليست بأي حال دولا مركزية او قيادية في التأثير على القرار العربي.
لكن هذا المسار الذي أعاد نتنياهو التذكير به وقال عنه ان الرأي العام لا يعرف الكثير عنه باعتباره احد إنجازاته، وكأنه يحاول التخفيف من حدة الردود العالمية المفاجئة له على ما حدث. قد امكن إعاقته او سده وحشر من يعبرون او يدعون له في الزاوية، وذلك تحت تأثير هذه الثورة الغزية السلمية.
وقد نستطيع ان نحدد الإطار الذي سيحكم رد فعل الدولتين العربيتين المركزيتين: السعودية ومصر في غضون الأيام القادمة، وهي ردود فعل بدأتها مصر في سابقة غير معهودة بفتح معبر رفح أمام حركة الغزيين طيلة شهر رمضان، ما يعني ان العرض الذي قدمته مصر باتفاق على ما يبدو مع إسرائيل على قادة "حماس" هو التخفيف او فك الحصار عن غزة. فيما يرجح ان تواصل السعودية تحت قيادة الملك سلمان نفس الموقف التقليدي المعروف من القضية الفلسطينية، ولكن ربما مع اجراءات عربية جماعية لكبح دول صغيرة من نقل سفاراتها الى القدس.
أما الدولتان المركزيتان المقابلتان في الإقليم أي تركيا وإيران، فقد نعرف بعد انتهاء عقد القمة الإسلامية في أنقرة يوم الجمعة (امس)، حدود التأثير الحاسم لهما على مجموع الدول الإسلامية، للتوصل هذه المرة الى اتخاذ اجراءات رادعة ضد إسرائيل وأميركا على حد سواء.
لكني أرى ان الرابط الأهم الذي يجب مراقبته في هذا السياق، هو العلاقة بين حدوث الثورة الغزية المفاجئ وغير المتوقع على هذا النحو منذ أسابيع قليلة بالتزامن الآن مع هذه الثورة بل الانقلاب الأوروبي على إدارة دونالد ترامب وحليفته إسرائيل، فيما يخص الموقف الأوروبي من تحدي إدارة ترامب بالتمسك بالاتفاق النووي مع ايران، كما ورد في إعلان الثلاثة الكبار فرنسا وألمانيا وبريطانيا، باستمرار الشركات الأوروبية وحمايتها العمل في ايران في مواجهة تهديد ترامب فرض عقوبات على هذه الشركات.
هل نتذكر إذاً، عند هذه اللحظات التاريخية التحليل الماركسي القديم، الذي كان يرى الى ان الأسباب الحقيقية لاندلاع الحربين العالميتين الأولى والثانية، إنما هو الصراع والتناقض بين ممثلي مصالح الدول الرأسمالية الكبيرة ولكن المتعارضة. وبالطبع ليس هذا احتمالا واردا، ولكن ما يحدث هو ان الانقسام العالمي داخل المعسكر الرأسمالي هو حقيقة اليوم تذكر بما جرى بالأمس. وان الرهان على دور أوروبي وازن في الصراعات العالمية ومنها الشرق الأوسط أي القضية الفلسطينية اصبح واقعيا وممكنا اكثر من أي وقت مضى.
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها